هل مظاهرات السترات الصفراء فى فرنسا رد فعل طبيعى على مشاكل حقيقية، أم أنها ناتجة عن نظرية مؤامرة وتدخل خارجى؟!.
بالأمس عرضنا لرأى أصحاب نظرية المؤامرة، الذين يتهمون صراحة روسيا بوتين وأمريكا ترامب، بأنهما يسعيان إلى الانتقام ليس فقط من فرنسا ورئيسها ماكرون، بل لهدم الاتحاد الأوروبى بأكمله!.
للأسف فإن أصحاب هذا الرأى لا يختلفون كثيرا عن بعض العرب والمسلمين، الذين لا يقرأون تاريخهم القديم والحديث، إلا انطلاقا من نظرية المؤامرة. والغريب أن عددا كبيرا من الإعلاميين العرب بدأوا يقرأون الأحداث الفرنسية بهذه الطريقة أيضا، ولا يريدون أن يروا شيئا آخر غير التآمر الخارجى!.
هل معنى كلامى أننى أستبعد تماما دور التآمر والعوامل الخارجية فى تفسير التاريخ؟!. إطلاقا هذا العامل موجود، وسيظل موجودا، لكن الفارق الجوهرى هو حجم هذا الدور، وهل هو جوهرى أم ثانوى؟!.
أى قارئ منصف للأحداث وتطوراتها فى فرنسا فى الأسابيع الأخيرة سيدرك أن هناك عوامل شديدة الموضوعية، هى التى دفعت آلاف الفرنسيين للنزول إلى الشوارع للاحتجاج على سياسات يرونها ظالمة، تتزايد فى العالم أجمع..
كثيرون من أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة فى فرنسا يقولون بوضوح منذ شهور إن ماكرون صار رئيسا فقط لأقلية من الأغنياء، وليس حتى كل الأغنياء.
هم يقولون إنه بتفكيره وسياساته منحاز تماما لأقلية من الأثرياء وأصحاب الشركات الكبرى، وإن قرار حكومته برفع قيمة الضريبة على أسعار الوقود، فى جوهره موجه للإضرار بالفقراء والمهمشين لصالح الأثرياء وأبناء المدن. وإن هذا القرار انعكاس لجوهر تفكيره العام. يقولون أيضا إنه صار متعاليا ومتعجرفا، ويعتقد أنه ملهم من السماء لحل القضايا الكبرى، ولم يعد يرى أن هناك الملايين الذين لا يستطيعون أن يكملوا مصاريف الشهر بسبب تدنى رواتبهم، وارتفاع تكاليف المعيشة. هم يقولون إنهم انخدعوا فى شعارات ماكرون البراقة أثناء حملته الانتخابية، وصوتوا له ظنا أنه سيخرجهم من فقرهم، ويعيد لفرنسا مجدها ونفوذها ودورها، لكنهم فوجئوا بالعكس تماما.
الكلمات والتعبيرات السابقة هى التى تتردد منذ اندلاع احتجاجات السترات الصفراء وحتى اليوم. وهى تعكس واقعا مؤلما، لكنه موجود.
السؤال: هل هناك إمكانية لاندساس عناصر مخربة أو فوضوية وسط المتظاهرين المحتجين على سوء أوضاعهم؟!.
الإجابة نعم، الإمكانية لذلك كبيرة جدا. وحينما يتظاهر ١٣٠ ألف شخص فى يوم واحد، وإذا كان بينهم عشرون مخربا فقط، فهم يستطيعون تنفيذ عمليات تخريبية واسعة، بل وتنفيذ عمليات اغتيال. وهنا يبقى السؤال: هل اندساس العشرة أو العشرين أو حتى الألف وسط مئات الآلاف، سيدمغ هذه التظاهرات بأنها كلها تخريبية وفوضوية؟!.
الإجابة العاقلة تقول لا قاطعة.
السؤال الثانى: هل هناك احتمال لوجود دور روسى أو أمريكى، أو لأى دولة أخرى، فى تشجيع واستثمار هذه الاحتجاجات؟!.
الإجابة هى أن ذلك وارد ومحتمل جدا، لكن ما هو وزن هذا التدخل، وهل هو العامل الأساسى، أم مجرد عامل فرعى وثانوى وهامشى؟!.
من المنطقى جدا أن تسعى كل دولة إلى استثمار ما يحدث فى جوارها أو حتى ما هو بعيد عنها لخدمة مصالحها. العالم كله يفعل ذلك منذ قديم الزمان وحتى الآن؟!
نعود لسؤال آخر: إذا كانت روسيا وأمريكا قادرتين على هز فرنسا بهذا الشكل، فالمؤكد أنه ينبغى مساءلة ماكرون وحكومته وأجهزة أمنه المختلفة، على أنهم بهذا الضعف والهشاشة للاختراق الخارجى!.
من مصلحة ترامب ألا ينجح ماكرون فى تطبيق اتفاقية المناخ التى انسحب منها، وبالتالى رأيناه يشمت فى التظاهرات، لأن ماكرون فرض ضريبة الوقود نظريا لتطبيقها فى اتفاقية المناخ. ومن مصلحة بوتين ألا يكون هناك دور فرنسى مؤثر داخل الاتحاد الأوروبى أو حتى فى العالم، ويتمنى أن يرى أوروبا بأكملها مفككة، بعد أن ساهمت مع أمريكا فى تفكيك امبراطورية بلاده عام ١٩٩٠.
الذى يحسم هل كان هناك تدخل كبير ومؤثر من الخارج أم لا هو تقديم المعلومات الدالة على ذلك. وحتى يحدث ذلك فمن الواضح أن ظروفا موضوعية ومنطقية هى التى دفعت غالبية الفرنسيين للتظاهر ضد حكومتهم ورئيسهم، وهذا التظاهر قد يكون جرى استغلاله من هذه الدولة أو تلك. هذا ما نراه، ومن يملك أدلة قاطعة عكس ذلك فليخبرنا بها!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك