بقلم: عماد الدين حسين
فى أول مرة قابلت الأستاذ هانى شكر الله، كان انطباعى عنه ليس جيدا. تصورته ــ بصورة خاطئة ــ أنه أقرب إلى المستشرقين، أو الحالمين، ثم تبدل كل ذلك بصورة كلية، حينما اقتربت من هذا الرجل، الذى جسد بالنسبة لى الإنسان الذى يطابق ما بين القول والفعل.فى الأول من يوليو ٢٠٠٨، عدت من عشر سنوات عمل فى جريدة البيان بدبى، للمشاركة مع كثيرين، فى تأسيس جريدة «الشروق».فى هذه الأجواء نجح المهندس إبراهيم المعلم، فى صنع تجربة أظن أنها غير مسبوقة، وأقنع عمالقة الصحافة والفكر والإبداع، ومعهم كتيبة من جيل الوسط، والشباب المتحمسين المخلصين بتأسيس الشروق.حينما دخلت «الشروق» وقتها، كنت أجلس أحيانا على ترابيزة إدارة التحرير، فأجد الراحل العظيم سلامة أحمد سلامة يتصدرها ومعه هانى شكرالله، وجميل مطر وعمرو الشوبكى وحسن المستكاوى وعمرو خفاجى وعبدالعظيم حماد وإبراهيم نوار وبين حين وآخر نستقبل الراحل الكبير محمد حسنين هيكل. معظم هؤلاء كنت أعرفهم بصورة أو بأخرى، قبل بدء تجربة «الشروق»، لكن لم أكن قد التقيت هانى شكر الله مطلقا.ولشهور امتدت من أول يوليو، وحتى أول فبراير ٢٠٠٩، كنا نصدر «الأعداد الزيرو»، أو الأعداد التجريبية من «الشروق»، أى نجهز الجريدة كاملة، لكن من دون أن نبيعها للجمهور.كان هانى شكر الله أحد رؤساء التحرير الأربعة، وكنت وقتها مسئولا عن القسم الداخلى، أى كل ما له صلة بالأخبار والتحقيقات.ذات يوم أنهينا تجهيز الصفحة الأولى، وعرضتها على الأستاذ هانى شكر الله. فنظر إليها، وقال لى: «عنوان هذا الخبر ليس جيدا»، تناقشنا لبعض الوقت، ثم قلت له: «هذا هو اجتهادى». وفوجئت بالرجل يرد: «والله عندك حق، طالما أننى غير قادر على وضع عنوان أفضل، فيظل العنوان الحالى هو الأفضل».هذا الرد، كان مفاجئا لى وقتها، لأنه كشف لى عن معدن رجل مختلف، ينظر لمرءوسيه بصورة مختلفة، ولا تأخذه العزة بالإثم ولا يحب المنظرة.بدأت أقترب من الرجل، يوما، بعد يوم، حتى اكتشفت فيه شخصا شديد التواضع، غزير المعرفة، باسم الوجه. كان يحاول دائما أن يترجم أفكاره اليسارية الطوباوية إلى واقع على الأرض من خلال تعاملاته مع الناس، لم يكن مثل بعض من يتمسحون فى الشعارات والأفكار دون إيمان فعلى بها، بل رأيت سلوكه دائما ترجمة حقيقية لأفكاره. فعل ذلك مع الجميع، من أول عامل البوفيه إلى رئيس مجلس الإدارة. كان إنسانا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كان يساريا منفتحا وإنسانا قبل أى شىء، من عينة القديس أحمد نبيل الهلالى، ولم يكن من المتعاملين بمنطق الشلة أو «الدوجما»، وقد أوفته الصديقة العزيزة دينا عزت ما يستحقه فيما كتبته عنه أمس فى الشروق.يحسب لهانى شكر الله أنه من أوائل الصحفيين والكتاب الذين اهتموا بفكرة التدريب والتأهيل للصحفيين الشباب. ولذلك كان طبيعيا أن يتولى مهمة إدارة مؤسسة هيكل للصحافة. كان يرى أنه ينبغى توفير كل الإمكانيات للصحفيين الشبان، حتى يطوروا الصحافة المصرية فى المستقبل.كان لديه تعبير يردده دائما وهو التركيز على «صحافة العمق» وكان يقوله دائما بالإنجليزية «inــdepth» كان بعضنا يسخر من ذلك أحيانا، ونقول له ضاحكين «عمق إيه يا أستاذ هانى فى أوضاعنا البائسة؟!». لكن الرجل ظل متمسكا بموقفه، وثبت أنه كان على حق. فالفضائيات والصحافة الإلكترونية قتلت مفهوم الخبر بصورته القديمة، فى الصحافة الورقية، وبالتالى فإنه من دون «صحافة العمق» سوف تنهار الصحافة الورقية.يحسب لهانى شكر الله أيضا أنه لفت نظرنا مرارا وتكرارا إلى أهمية متابعة الصحافة الأجنبية. لا يكفى أن نقول عليها «صحافة عميلة أو متآمرة، كى نريح أنفسنا من وجع الدماغ». هناك صحف عالمية كثيرة، تقدم موضوعات وقصصا ومقالات ممتازة، وأى صحفى حقيقى، لا يمكن أن يستغنى عنها حتى يظل مطلعا على ما يجرى فى العالم، بل ولكى يعرف أخبار منطقتنا العربية عبر هذه الصحف الأجنبية.يوم الأحد الماضى مات هانى شكر الله. للأسف كان مهملا فى صحته، ولم يتوقف عن التدخين، فتوقف قلبه العليل عن النبض. هانى شكر الله الذى عرفته كان شديد الإنسانية، ومن سوء حظى أننى لم أحتك به كثيرا، فقد تركنا فى «الشروق» إلى تجارب أخرى كثيرة، ثم خطفه الموت. ألف رحمة عليك يا أستاذ هانى وخالص العزاء لأسرته ومحبيه ولمهنة الصحافة.
أرسل تعليقك