مساء الخميس صعّدت تركيا لهجتها، وقالت على لسان وزير خارجيتها مولود أوغلو بأن التحقيق الدولى فى قضية مقتل الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى، بات شرطا ضروريا. وفى صباح الخميس عقدت النيابة العامة السعودية مؤتمرا صحفيا، قدمت فيه غالبية المعلومات الاساسية، بشأن الجريمة التى وقعت داخل القنصلية السعودية فى اسطنبول.
إذا هذا التطور الأخير يعطى لنا فكرة عن سباق اللحظات الأخيرة ولعبة الشطرنج بين السعودية وتركيا.
الناطق الرسمى باسم النيابة السعودية شلعان بن راجح الشلعان، كشف عن أكبر قدر من التفاصيل الخاصة بمقتل خاشقجى.
هو أكد على صحة معظم التسريبات التركية السابقة، خصوصا وجود فرق متخصصة، وتقطيع جثة خاشقجى.
ظنى الشخصى أن السعودية وصلت إلى قناعة نهايته بأن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان صار يستهدف أساسا بكل الطرق، ربط ولى العهد السعودى محمد بن سلمان بالقضية. وضح ذلك فى مقاله الخطير فى الواشنطن بوست قبل نحو أسبوعين، واتضح أكثر فى كلام وزير خارجيته مساء الأربعاء الماضى، بأن التحقيق الدولى صار شرطا لحل القضية.
شخصيا أدنت وشجبت بكل المعانى فى هذا المكان ومنابر تليفزيونية كثيرة، جريمة قتل خاشقجى، وطالبت بمعاقبة كل المتورطين فيها والمخططين.
اليوم أركز فقط على محاولة فهم الإعلان السعودى لتفاصيل الجريمة. وظنى أنها أفضل تحرك سعودى منذ الحادث فى الثانى من أكتوبر الماضى.
بات واضحا أن أردوغان يصوب على محمد بن سلمان شخصيا، ويحاول إقناع المجتمع الدولى بأنه هو من أعطى الأوامر بقتل خاشقجى، الأمر الذى تنفيه السعودية تماما.
أردوغان قال إنه سلم كل الدول الغربية التسجيلات الكاملة للجريمة. لكن وزير الخارجية الفرنسى ايف لودريان خرج لينفى هذا الأمر، ويتهم أردوغان بأنه يمارس «لعبة سياسية» وهو مصطلح دبلوماسى مهذب للبلطجة والابتزاز السياسى.
هل نلوم أردوغان على ما يفعله، أم نلوم من أعطى له الفرصة بتنفيذ هذه الجريمة الشنيعة؟!.
أردوغان برجماتى محترف وجاءت له فرصة ذهبية لابتزاز السعودية ويحاول الانتقام من محمد بن سلمان لأنه أحد من ساهموا فى إفشال مشروعه السياسى فى المنطقة.
والسؤال الجوهرى لماذا لا يقوم أردوغان بتسليم هذه التسجيلات إلى القضاء السعودى، بدلا من تسريبها بصورة ممنهجة لوسائل الإعلام التركية والعربية.
أغلب الظن أنه يريد استمرار الضغط على الحكومة السعودية، بحيث يفصل بين الملك سلمان وولى عهده الأمير محمد، وبالتالى فالجائزة الكبرى التى يريدها أردوغان هى حدوث تغيير سياسى فى المملكة، يتوافق والهوى التركى ومصالحها فى المنطقة.
هو أيضا يراهن على المصالحة الأخيرة مع إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وسيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب بعد الانتخابات النصفية التى جرت قبل أيام. إضافة إلى أن الحادث قد أدى إلى خسارة السعودية بصورة فادحة خصوصا فى الأيام الأولى للحادث، حينما كانت تنفى بأن خاشقجى قتل داخل قنصليتها.
التحرك السعودى يوم الخميس، أفسد إلى حد كبير اللعبة التركية، إلا إذا كان فى يد أردوغان «الكارت المدمر» وهو وجود تسجيل لا يقبل النقض والدحض بمعلومات مخالفة لما تم إعلانه من الجانب السعودى.
مرة أخرى فالسؤال الجوهرى هو، هل يملك أردوغان هذا الكارت ويدخره إلى اللحظات الأخيرة، أم أنه يحاول تعظيم مكاسبه من القضية؟!.
هذا سؤال جدلى يصعب الإجابة عنه الآن، ويتوقف على ما يملكه أردوغان من معلومات، وكيفية حصوله عليها. وهل جاءت عبر التجسس على القنصلية السعودية وكبار مسئوليها، ويتوقف أيضا على موقف الدول الكبرى من القضية.
ومن الواضح أن بعض الحكومات الأوروبية بدأت تتفهم نسبيا الموقف السعودى، أو حتى بدأت تحسب الأمر بصورة براجماتية، كما حدث من فرنسا وبلدان أخر رأت أن بيانات النيابة العامة السعودية يوم الخميس خطوة فى الاتجاه الصحيح، ورأينا أيضا زيارة وزير الخارجية البريطانى للرياض قبل أيام، إضافة بالطبع لموقف ترامب الداعم للرياض منذ بداية الأزمة.
لكن كل ذلك لا يعنى أن القضية انتهت، لأن هناك فى الجانب الآخر حسابات دولية معقدة، ورأى عام دولى ووسائل إعلام وكونجرس أمريكى،كلهم لا يقبلون أن تمر هذه الجريمة من دون عقاب لكل المتورطين فيها.
لكن المؤكد وفى كل الأحوال فإن العلاقات بين محمد بن سلمان وأردوغان ومن يتبعه قد وصلت إلى أسوأ لحظاتها، ويصعب تماما الحديث عن حل وسط، حتى لو تظاهر الاثنان بعكس ذلك، وهذا أمر يحتاج إلى مناقشة أوسع.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك