كتبت قبل أيام فى هذا المكان تحت عنوان: «سقوط الإعلام فى امتحان خاشقجى» منتقدا الأداء السيئ لبعض وسائل الإعلام خصوصا فى المنطقة فى معالجتها لقضية اختفاء الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى، بعد دخوله قنصلية بلاده فى مدينة اسطنبول التركية، قبل أن نعرف مساء أمس الأول أنه قُتل داخل القنصلية كما قال البيان الرسمى السعودى.
بعض الزملاء والقراء والأصدقاء لفتوا نظرى، إلى أن كلامى قد يفهم منه إهدار حق بعض وسائل الإعلام التى لعبت دورا مهما فى تغطية القضية بصورة موضوعية.
وحتى يكون كلامى واضحا فإن الفكرة الرئيسية لمقال الأربعاء الماضى، كان موجها للصحف ووسائل الإعلام التى تعمدت اختلاق أخبار غير صحيحة عن القضية، أو السكوت والصمت التام عنها وكأنها لم تكن!.
فى المقال انتقدت بشدة بعض وسائل الإعلام العربية والتركية، التى تعمدت اختلاق أخبار وقصص ثبت لاحقا أنها ليست صحيحة أو دقيقة، كما انتقدت بعض وسائل الإعلام السعودية التى لم تذكر إلا الجانب الرسمى من القصة، ولم تقدم أى دليل يثبت صحة وجهة نظرها.
الفريق الأول «المبالغ» روج مثلا لقصة «ساعة الآيفون» التى قيل إنها سجلت كل تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة خاشقجى قبل مقتله، ثم ثبت أنها قصة مختلقة تماما، وربما جرى تسريبها للتغطية على تنصت محتمل لأجهزة الأمن التركية على القنصلية السعودية.
أيضا تابعنا الخبر الذى بثته وكالة رويترز العالمية، ومفاده أن القنصل السعودى فى اسطنبول تم إعفاؤه من منصبه وإحالته للتحقيق، وثبت أنه لم يكن صحيحا، بل جرى نشره على موقع مزيف لإحدى المواقع السعودية الكبرى وهو «سبق»، ويحسب لهذه الوكالة أنها اعتذرت عنه.
الفريق الثانى واصل فقط تقديم وجهة نظر واحدة وهى أن خاشقجى لم يدخل السفارة، لكنه لم يقدم أيضا أى دلائل وإثباتات على حصة هذا الأمر وثبت أخيرا أنه لم يكن صادقا.
وبالتالى غرق غالبية الجمهور العربى فى دوامة هذا الاستقطاب الذى خالف كل القواعد المهنية.
فى المقابل وتوضيحا لما عجزت عن شرحه فى المقال الماضى، أؤكد وجود إعلام على أعلى درجة من المهنية منذ بداية القضية.
للموضوعية فإن صحيفة الواشنطن بوست قدمت تغطية واسعة النطاق للقضية.البعض سيفسر ذلك، باعتبار أن خاشقجى كان أحد كتابها، وأنها أفردت وخصصت العديد من الصفحات والمقالات والافتتاحيات للقضية، لكن فى المقابل فإنها لم تغفل إبراز وجهة النظر الأخرى المتمثلة فى الموقف الرسمى السعودى. فى نفس الصف كانت النيويورك تايمز وكذلك فضائية سى إن إن. بالطبع هناك موقف سياسى واضح من هذه الوسائل الثلاث ضد محمد بن سلمان ولى العهد السعودى، منذ فترة طويلة، وزادت النبرة منذ تفجر القضية، لكن هذه الصحف تصرفت بصورة مهنية إلى حد كبير، ونفس الأمر ينطبق على بعض وسائل الإعلام البريطانية.
طبعا سيقول البعض إن غالبية الأخبار التى نشرتها وسائل الإعلام كانت مجهلة ومنسوبة إلى مصادر لم تذكر اسماءها، وتقديرى أنه لا يمكن لوم هذه الوسائل، لأنه لا يعقل مثلا أن تقوم أجهزة الأمن والاستخبارات فى تركيا وأمريكا وبريطانيا بالإعلان المباشر عن أنها مصدر هذه التسريبات.
أى مبتدئ فى الإعلام والسياسة يعرف أن السلطات التركية هى مصدر التسريب الأساسى.. صحيح أن وزير العدل التركى قال إن النيابة وأجهزة التحقيق لن تلتفت إلى أى تسريبات مجهلة، ولكن كان واضحا أن التسريبات خصوصا للاعلام الامريكى لعبت دورا فى استمرار الضغط على الحكومة السعودية، وصولا إلى اعتراف الأخيرة بأن خاشقجى قتل داخل قنصليتها.
ما الذى يجعلنا نحكم بأن هذه الصحيفة أو تلك الوكالة أو الفضائية كانت مهنية أم لا؟.
بالطبع هناك مجموعة متنوعة من القواعد والمعايير أبرزها السمعة والمصداقية السابقة، ومدى صدق الأخبار المنشورة.
ختاما لا توجد وسيلة إعلام واحدة فى العالم يمكن وصفها بأنها موضوعية مائة فى المائة. لكن هناك درجات.. وبالتالى لا يمكن المقارنة بين وسائل إعلام تنشر فقط البيانات الرسمية، وبين أخرى تنتقد الرئيس الأمريكى ليل نهار.
للأسف غالبية إعلامنا العربى رسب بامتياز، فى حين أن بعض الإعلام الدولى حقق نجاحات كبرى، جعلت الكثيرين يدركون أن الإعلام الحر أفضل صديق للحاكم والمحكوم وللحقيقة ولكل المجتمع.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك