بقلم - عماد الدين حسين
«ما هذه التفاهة التى تجعل الناس يتحدثون عن فستان أو مايوه الفنانة رانيا يوسف، وينسون القضايا الأساسية للمجتمع مثل التعليم والصحة والطرق والمشاكل الاقتصادية المختلفة؟!!».
العبارة السابقة لست أنا قائلها، ولا أؤمن بها، لكنها ترددت وتكررت آلاف المرات على لسان غالبية من علقوا على أزمة فستان رانيا يوسف فى ختام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، الذى أظهر غالبية جسدها.
للأسف الشديد لدى الكثير منا بعض الأفكار والمقولات الجاهزة والمعلبة عن معظم القضايا التى نناقشها، من دون أن نبذل الحد الأدنى من التفكير والجهد العقلى، لكى نراجع صحة هذه المقولات.
من بين هذه الأفكار الجاهزة، أنه طالما عندنا أزمة اقتصادية كبرى أو أزمة فى التعليم والصحة، فلا ينبغى بأى حال من الأحوال أن نتحدث فى أى قضية أخرى فى الفن أو الرياضة أو الأدب، لأنها من وجهة نظر أصحاب هذا المفهوم قضايا تافهة لا ينبغى أن ننشغل بها، ومن يفعل ذلك، فإنه يتجاهل آلام وعذابات ومشاكل الشعب المطحون!.
أصحاب هذا المنطق يعتقدون أنهم يحتكرون الحقيقة والصواب وعلى الآخرين اتباعهم والاكتفاء بكلمة آمين!.
لا يعنى كلامى أننى أسفه أو أقلل من وجهة نظرهم، بل أحترمها تماما وكل ما أطلبه منهم، أن يفعلوا ذلك مع أصحاب وجهات النظر الأخرى، حتى يثبتوا فعلا أنهم ديمقراطيون ويقبلون بتنوع الآراء.
أصحاب هذه المدرسة يريحون أنفسهم تماما من عناء بذل أى مجهود حينما يصنفون أى قضية أو مشكلة باعتبارها جادة يفترض أن ينشغل بها الجميع أو ولا قيمة لها مقارنة بالقضايا الكبرى!!.
وللأمانة فأنا أعذرهم إلى حد ما، لأنهم تربوا فى مناخ عربى شامل يقدس هذا النوع من التفكير المبسط والمخل. نتذكر جميعا أن أنظمة عربية أدمنت التجبر على شعوبهم واستعبادها ونهبها، وجمدت أى إصلاح فى أى مجال، بحجة أن ذلك يعيقها عن تحرير فلسطين!!. ثم اكتشفنا أن وجود هذه الأنظمة واستمرارها كان أكبر خدمة لإسرائيل، لأنه من دون هذه الأنظمة كانت الشعوب ستجد طريقها الطبيعى للبناء والإصلاح والتقدم، وبالتالى ستنتهى أسطورة إسرائيل القائمة أساسا على استمرار التخلف والاستبداد العربى وربما من دون حرب.
تخيلوا لو أن نظاما مثل البعث فى سوريا والعراق أيام حافظ الأسد وصدام حسين، قد أقام ديمقراطية حقيقية، هل كانت أمريكا ستغزو العراق، أو تدخل سوريا فى هذا الصراع العبثى، وتتحول إلى ساحة للصراعات العالمية وأرض لتجربة أحدث أنواع الأسلحة؟. وتخيلوا لو أن معمر القذافى لم يدمر ليبيا ومؤسساتها، هل كانت ستصل إلى هذه الحالة المأساوية، وتخيلوا لو أن غالبية بلدان الخليج تعاملت مع شعوبها باعتبارهم مواطنين كاملى الأهلية ويستحقون حكما مختلفا، هل كان الغرب سينهب ثروات المنطقة بمثل هذه السهولة. غالبية هؤلاء تاجروا بما يسمى بالقضايا الكبرى، من أجل هدف واحد، وهو تأجيل الحديث فى القضايا الكبرى الحقيقية وهى الإصلاح والتعددية والديمقراطية والحريات.
فستان رانيا يوسف، لم يكن مجرد الخلاف على ما أظهره من جسد الفنانة فقط. لكنه مرتبط أيضا بالجدل حول قضايا أخرى كثيرة ومهمة مثل «الفارق بين الأخلاق والقانون» كما أشار زياد بهاء الدين، أو «حيرة الهوية» كما أشار طلعت إسماعيل، أو «الازدواجية فى العقل المصرى» كما كتب محمد عصمت، والمقالات الثلاث منشورة فى عدد «الشروق» الصادر أمس الثلاثاء.
كثيرون كتبوا عن علاقة هذا الموضوع بالقيم والصراع بين المحافظين والليبراليين، أو بين هيمنة الأفكار المتشددة على الأجواء العامة. وفى ظنى أن كل ما سبق قضايا جوهرية لم يحسمها المجتمع المصرى أو العربى حتى الآن.
يقول أصحاب «مدرسة القولبة» أن الحكومة تخترع مثل القضايا التافهة، لكى تشغل الرأى العام عن قضية الغلاء والأسعار. نسمع ذلك فى كل القضايا الجدلية تقريبا من أول الخلاف حول هدف فى الدورى من تسلل ونهاية بالإشاعات التى لا تتوقف فى كل المجالات!. ولهؤلاء نقول إن مثل هذه القضايا ستستمر لأنها صارت مرتبطة بالسوشيال ميديا. وبالمناسبة هى موجودة فى كل بلدان العالم المتقدم والمتأخر. ثم إنه ثبت بالدليل القاطع أن أى قضايا أخرى سواء كانت تافهة أو جادة، لن تشغل الناس عن قضاياهم الحقيقية.. بعد كل ذلك هل نتوقف عن الاستسهال، ونفكر قليلا قبل إصدار الأحكام القاطعة؟!.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك