لا أحد يعرف ماذا سوف يكتبه الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الدولي الأسبق إلى سوريا، إذا ما جلس ذات يوم يكتب تجربته مبعوثاً أممياً مكلفاً بالوصول إلى حل للأزمة السورية، فلقد جاءت عليه لحظة قرر فيها الاستقالة من الموقع، لعل الذي يأتي من بعده يستطيع أن يقدم للسوريين ما لم يستطع هو أن يقدمه.
ولكن ما نعرفه أن الرجل لم يشأ أن يستهلك الوقت فيما لا جدوى من ورائه، ولم يحب أن يظل يروح ويجيء بين دمشق وبين نيويورك، حيث مكتب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة الذي أرسله مبعوثاً. إنه لم يشأ أن يظل يفعل ذلك، بينما الأزمة كما هي لا تتحرك من مكانها خطوة إلى الأمام، وإنما تكبر وتتضخم بحكم أن ما حولها يتحرك بطبيعته، فكانت النتيجة أن الثمن دفعه الملايين الأبرياء من آحاد السوريين ولا يزالون يدفعون!
وما نعرفه أيضاً أن الإبراهيمي كان أميناً مع نفسه جداً، وكان أميناً بالقدر نفسه مع القضية التي أرسلته المنظمة الدولية في سبيلها، فأخلى مكانه على الفور، في اللحظة التي اكتشف فيها أن المسألة الماثلة بين يديه في حاجة إلى تناول مختلف. لقد قرر منذ البداية أن الهدف الذي يراه لنفسه، أبعد من مجرد إرساله مبعوثاً دولياً إلى الأراضي السورية، على سبيل الشكل الظاهر أمام المجتمع الدولي، أو هكذا كان يتصور، وأن الهدف هو أن تكون لمهمته حصيلة جاء من أجلها، ومن أجل تحقيقها على الأرض، باعتباره عربياً من أبناء المنطقة، قبل أن يكون موظفاً يحمل الصفة الدولية، ويحمل معها تكليفاً بمهمة محددة!
وكذلك الأمر تقريباً مع إسماعيل ولد الشيخ، مبعوث المنظمة الدولية الذي جاء يوماً إلى اليمن، ثم غادر الموقع في آخر المطاف، تاركاً العبث الحوثي في حق اليمنيين، وفي حق اليمن كله، على ما هو عليه، وقد كان الأمل أن يحمل إلى المنظمة في مقرها، وأمام مجلسها الدولي، رسالة واضحة تقول إن هذه الجماعة الحوثية تنفق الوقت، لا أكثر، وأنها لا تريد أن تفهم أنها إذا كانت جماعة سياسية من بين جماعات مثيلة غيرها في البلد، فإن ذلك أمر مفهوم في هذه الحدود، ولكنه لا يمنحها حق التغول على الوطن، ولا الانقلاب على حكومة شرعية، ولا الاستقواء على المواطنين بالدعم الإيراني بكل أشكاله، ولا بالطبع وضع نفسها فوق الدولة، وفوق المجتمع كله، وفوق مقدرات اليمن الذي كان سعيداً في يوم من الأيام!
إن إسماعيل ولد الشيخ دبلوماسي موريتاني، والأخضر الإبراهيمي دبلوماسي جزائري، وكلاهما عربي قبل أن يحمل جنسية هذا البلد العربي، أو ذاك، والمتصور بالتالي أن يكون إحساس ولد الشيخ بحقيقة المهمة التي كان قد جاء يحققها في اليمن، مختلفاً تماماً عن إحساس البريطاني مارتن غريفيث الذي جاء من بعده مبعوثاً من أجل المهمة ذاتها إلى صنعاء، وأن يكون هذا هو الحال أيضاً، إذا ما قامت أي مقارنة موضوعية بين الطريقة التي كان كوفي عنان يتفاعل بها مع الأمر في دمشق، حين أرسلوه مبعوثاً دولياً، وبين الإبراهيمي مبعوثاً إلى العاصمة السورية نفسها!
وقد جاء غسان سلامة مبعوثاً دولياً إلى ليبيا، بعد خمسة مبعوثين سبقوه، ثم غادروا ولم يغادر الليبيون ثلاثية من الاضطراب، والفوضى، وافتقاد الأمن، عاشوا أسرى لها منذ سقط نظام العقيد إلى اليوم، لا لشيء، إلا لأن كل مبعوث منهم كان يأتي ليدير الأزمة ولا يحلها. ولا بد أن عربية سلامة كانت منذ البداية تؤهله لأن يرى في الوضع الليبي من التفاصيل ما لا يمكن أن يراه مبعوث خواجة آخر، ومن الخصائص ما لا تعرفه أوضاع أخرى مأزومة حول العالم. إن المبعوث الخامس مارتن كوبلر مثلاً كان يتردد على الأراضي الليبية، كما يتردد السائح على بلد هنا أو هناك، فلا يتجاوز بصره فيه ظاهر السطع البادي أمام العيون، وكذلك فعل المبعوث الثاني إيان مارتن، والثالث بناردينو ليون!
ولا أحد بالتأكيد يطلب من سلامة أن يدخل إلى طرابلس حاملاً عصا موسى، فيشق الأرض فيها عن المعجزات، ولكن ما نطلبه أن يقدم عربيته، وانتماءه إلى منطقته، ودرايته بها، وإلمامه بتفاصيلها، وفهمه لطبيعتها، على مقتضيات وظيفة رسمية سبقه إليها خمسة، والله وحده أعلم بعدد المبعوثين الذين سيجيئون من بعده، إلى أن تستعيد ليبيا الحد الأدنى من تماسكها الذي عاشت تعرفه!
فبعد إحاطته أمام مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، خرج نواب من برلمان شرق ليبيا يعلنون غضبهم، ويطلبون تغييره بمبعوث أممي آخر، لأنهم رأوا في إحاطته قفزاً فوق الحقيقة، والواقع، والزمن، والأحداث، واستفزازاً للشعب الليبي في عمومه!
وقد كان هذا القفز جائزاً من مبعوثين ثلاثة خواجات في السابق، لأنهم كانوا يؤدون وظيفة جرى انتدابهم لتأديتها، ولا يستشعرون في حقيقة الأمر ما يمكن أن يستشعره رجل مثل غسان سلامة، باعتباره واحداً من أبناء المنطقة، وهو فوق استشعاره الذي نفترضه، يظل عقلاً من بين عقولها، وصاحب رأي ورؤية، باعتباره وزيراً للثقافة في لبنان من قبل، وأستاذاً للعلوم السياسية في جامعة السوربون!
ولم أعرف ماذا قصد نواب البرلمان من وراء اتهامه بالقفز فوق الحقائق الأربع المذكورة، وباستفزاز الليبيين، إلا عندما قرأت بيانه عن العمليات التي يخوضها في الوقت الحالي الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، ضد الجماعات المسلحة في مناطق الجنوب. ففي بيان صدر عن غسان سلامة عند بدء العمليات دعا جميع الأطراف في تلك المناطق إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، ثم ذكر أن ما يحتاج إليه الجنوب هو معالجة القضايا الملحة، وأهمها المسألة الأمنية والإنسانية.
السؤال هو: هل تتساوى الأطراف كلها في الجنوب، بحيث يمكن دعوتها جميعاً إلى ضبط النفس كما دعاها هو في البيان؟!... إن الجيش الوطني جيش نظامي يأخذ على كاهله منذ تولى حفتر قيادته تطهير البلد من جماعات تحمل السلاح، وتخرج على الدولة، وترهب الليبيين، وتملأ البلاد بالفوضى، بينما الطرف الآخر في المقابل الذي يدعوه سلامة إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، طرف خارج على النظام، وعلى القانون، وعلى الناس، وليس من الوارد أن نساوي بينهما، إلا إذا كانت الدولة الوطنية قد صارت في نظر المبعوث السادس هي وكل جماعة خارجة عليها سواء.
إن المبعوث الأممي سلامة يذكر صراحة في بيانه، أن المسألة الأمنية إنما هي على رأس القضايا الملحة التي يحتاج الجنوب إلى معالجتها، ثم ينسى، أو لعله يتناسى، أن حفتر لم يوجه الجيش إلى هناك إلا لمعالجة هذه القضية على وجه التحديد!
يعرف غسان سلامة في النهاية أن الأزمة المستحكمة في ليبيا تحتاج إلى حل، لا إلى إدارة، وكل ما ندعوه إليه أن يتصرف وفق ما يعرف.
أرسل تعليقك