بقلم - عبد العظيم حماد
باستثناء بعض الفاعليات الحكومية الخجولة وبعض المبادرات الأهلية، والاحتفالات الروتينية لحزب الوفد الجديد، لا تبدو فى الأفق مؤشرات على استعداد جدى للاحتفاء الرسمى والمجتمعى اللائق بحلول الذكرى المئوية الأولى لثورة 1919، بوصفها الحدث الأكبر المؤسس لمشروع الدولة الوطنية المصرية، وها هو ذا قد مرت بالفعل منذ عدة أيام مائة عام بالتمام والكمال على يوم 13 نوفمبر 1918، الذى ذهب فيه الوفد الشعبى المصرى برئاسة سعد زغلول لمقابلة المعتمد البريطانى للحصول على تصريح بالسفر إلى مؤتمر الصلح الدولى بباريس لطلب الاستقلال الكامل لمصر.. ها هو ذا اليوم قد مر دون أدنى قدر من الاهتمام بذكراه، وكأنه يخص دولة أخرى، وشعبا غير الشعب المصرى.
تصبح هذه الملاحظة مدعاة لمزيد من الحزن إذا قارنا عدم الاكتراث هذا من جانبنا بحدث بمثل هذا الحجم، بآثاره الوطنية والإقليمية والدولية بما جرى فى باريس أخيرا من مظاهر الاهتمام العالمى بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى؛ حيث توافد لإحياء هذه الذكرى رؤساء دول وحكومات أكثر من أربعين دولة، وبالطبع فإن المقارنة يجب أن تكون حاضرة دوما فى أذهاننا بما تفعله كل الدول إحياء لمناسبات اليوبيل الفضى والماسى ومئويات الأحداث الكبرى فى تاريخها، لنتأكد من أن عدم احتفاء الدولة والمجتمع المصريين كما يجب بمئوية ثورة 1919 هو امتداد بالقصور الذاتى لموقف نظام يوليو 1952 منها.
فقد اعتبر رجال يوليو أنفسهم الأقدر على تحقيق الاستقلال الوطنى، وإجلاء الاحتلال البريطانى، وهو ما فشلت قيادات 1919 فى تحقيقه، وما فشل فيه حزب الوفد المنبثق عن الثورة، على الرغم من الإنجازات المهمة جدا التى تحققت على صعيد القضية الوطنية، وأهمها إلغاء الحماية البريطانية، والاعتراف بمصر دولة مستقلة، ثم معاهدة 1936 التى حصرت الوجود العسكرى البريطانى فى قاعدة قناة السويس لمدة 20 عاما، وكذلك إلغاء الامتيازات الأجنبية ونظام القضاء المختلط المترتب عليها، ولم يأخذ الضباط الوطنيون فى اعتبارهم أن تغير موازين القوى الدولية بعد الحرب العالمية الثانية كان له الفضل الأكبر فى تحقيق أهداف حركات التحرر الوطنى على مستوى العالم كله تقريبا، وهو ما لم يكن متاحا لقادة ثورة 1919، ومن ثم يحسب لهم لا عليهم ما تحقق من مكتسبات وطنية، كان من بينها تمصير قيادة الجيش والسماح لأبناء الموظفين وصغار الملاك والتجار بالانضمام إلى سلك الضباط، وقد كان أبناء هذه الشريحة هم الذين خرج من صفوفهم ضباط 23 يوليو 1952.
لكن ليس هذا السبب هو وحده ما حدد رؤية نظام 1952 «السلبية فى محملها» لثورة 1919، وهى الرؤية التى وردت بالتفصيل فى أهم وثيقة فكرية للنظام، أى ميثاق العمل الوطنى الصادر عام 1962، ففى باب من أبواب هذا الميثاق تحت عنوان «جذور النضال الوطنى» اعتبر واضعو النص أن تلك الثورة فشلت فى تحقيق أهداف هذا النضال، وأرجعوا هذا الفشل إلى سببين رئيسيين، الأول هو تفرغ الأحزاب التى انبثقت عنها للصراع على كراسى الحكم، والثانى هو أن قادتها لم ينظروا خارج حدود مصر، أى أنهم رفضوا قيادة المشروع القومى العربى للوحدة والاستقلال.
وبغض النظر عن أن التطورات اللاحقة لصدور ميثاق 1962 وحتى يومنا هذا أثبتت أن رؤية سعد باشا لخطورة ــ أو لنقل لعدم جدوى ــ دمج المشروع الوطنى المصرى فى المشروع القومى العربى فى هذه المرحلة من التاريخ كانت أكثر حكمة، وأبعد نظرا من رؤية ضباط يوليو، فليس هذا أيضا هو السبب الرئيسى لكراهية دولة 1952 لثورة 1919، والحرص الدائم على الحط من شأنها، وتشويه زعمائها بمناسبة، وبدون مناسبة، كما كان يرد فى خطابات جمال عبدالناصر وأنور السادات، على وجه الخصوص، بوصفهما ممن عايشوا النظام السياسى المنبثق عنها، وثاروا عليه، ووصفوه «بالأنقاض التى تداعت»، وممن شاركوا فى النشاط السياسى ضد حزب الأغلبية الممثل لهذه الثورة، إلى حد التآمر لاغتيال زعيمه وخليفة زعيم الثورة الأول: مصطفى النحاس باشا، متأثرين بأفكار الوطنية الفاشية، التى راجت فى فترة تكوينهم السياسى، وكان من معاقلها الحزب الوطنى الجديد، وحزب مصر الفتاة، وجماعة الإخوان المسلمين، والمجموعات الملتفة حول على ماهر باشا أحد أبرز السياسيين المرتبطين بالقصر الملكى، وحول الفريق عزيز باشا المصرى.
إذن فإن هذه النسخة الفاشية من الفكر الوطنى هى السبب الحقيقى البعيد والعميق لكراهية رجال يوليو 1952 لثورة 1919 وزعمائها، وتراثها، وهذا أيضا هو السبب فى التفسير الضيق لمسلك حزب الوفد فى الحادث المشهور فى تاريخ مصر السياسى باسم حادث 4 فبراير، حين هدد المندوب السامى البريطانى الملك فاروق بخلعه من العرش بالقوة ما لم يكلف النحاس باشا برئاسة الحكومة، بوصفه زعيم الأغلبية الشعبية القادر على تنفيذ التزامات مصر فى معاهدة 1936، فى ذروة اشتعال معارك الحرب العالمية على الأراضى المصرية نفسها عام 1942، فطبقا لهذا التفسير، اعتبر القصر ورجاله، وكل أحزاب الأقليات، وكل الجماعات الفاشية، وكذلك الضباط المسيسيين، النحاس باشا متآمرا مع سلطات الاحتلال على استقلال مصر، ومن ثم خائنا للوطن قبل أن يكون خائنا للملك، دون أن يتوقفوا برهة مع أنفسهم ليسألوها السؤال الذى كان النحاس نفسه يسأله، وهو: ما الذى كان سيحدث لو أنه رفض تشكيل الحكومة بينما تقترب قوات الماريشال الألمانى رومل من الإسكندرية؟ ألم يكن البريطانيون سيخلعون الملك، ويعلنون الحماية العسكرية من جديد على مصر، كما فعلوا فى بداية الحرب العالمية الأولى، عندما عزلوا الخديوى عباس حلمى، وحولوا مصر إلى محمية عسكرية، ووضعوا مشروعا لضمها إلى الامبراطورية كمستعمرة؟!
كذلك تجاهلت كل هذه الجهات ــ عن عمد ــ أنها جميعا هى الصانع الحقيقى لكارثة 4 فبراير، بمحاولاتها للتعاون مع ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية على أمل نجاحهما فى هزيمة بريطانيا، ومن ثم تحرير مصر من احتلالها، دون تدبر كاف للعواقب، كما تجاهلت كل هذه الجهات مساهمتها هى نفسها بالدور الأكبر فى الوصول بالأزمة إلى الطريق المسدود (الذى فتحه حادث 4 فبراير) وذلك بتواطؤها المستمر لحرمان حزب الوفد من حقه الدستورى فى تولى السلطة، واصطناع أغلبيات برلمانية زائفة من خلال انتخابات مزورة، عوضا عن أسلوب الانقلابات الدستورية الصريحة الذى كان القصر الملكى يتبعه فى عهد الملك فؤاد، وهنا نعود إلى السبب الأول المزعوم لفشل ثورة 1919، كما حدده ميثاق 1962، وهو أن الأحزاب المنبثقة عن تلك الثورة وزعاماتها تفرغت للصراع على كراسى الحكم، بدلا من مصارعة الاحتلال البريطانى، فهنا تحديدا تكمن المغالطة الكبرى المتعمدة بهدف تأثيم المفاهيم االديمقراطية الأساسية لثورة 1919 فى الضمير الجمعى للجماعة الوطنية المصرية، وذلك تسويغا للنظام السياسى الجديد، والذى يرتكز على احتكار السلطة، وإلغاء التعددية، أو تفريغها من مضمونها، ومصادرة الحريات، وإغلاق المجال العام، ومن ثم تجفيف الحياة االسياسية بالكامل.
تتمثل المغالطة فى وضع حزب الوفد الذى هو حزب ثورة 1919، والتنظيم الجامع للتيار الرئيسى (الكاسح) للوطنية المصرية فى خانة واحدة مع أحزاب الأقليات، والرجعية الملكية فى لعبة الصراع على السلطة أو «كراسى الحكم»، فى حين أن الحقيقة المجردة هى أن الوفد ومن ورائه الأمة التى يمثلها كانا هما الضحية فى هذا الصراع، بمعنى أن الصراع كان من طرف واحد هو الرجعية بكل أطيافها ضد حزب الوفد، رفضا لمبدأ الأمة مصدر السلطات، وللمبدأ الدستورى القاضى بأن الملك يملك ولا يحكم، وأن الحكومة مسئولة أمام البرلمان المنتخب انتخابا حرا، وبعبارات أخرى فقد كان الصراع فى أصله وفصله عدوانا رجعيا مستمرا على ثورة 1919 وحزبها وأغلبيته الشعبية، وعلى كل ما تمخضت عنه هذه الثورة من أسس لنظام الحكم الديمقراطى، وعليه يصبح تحميل الوفد المسئولية أو جزء منها عن فشل ثورة 1919 فى تحقيق أهداف النضال الوطنى بدعوى انخراطه فى لعبة الصراع الحزبى على الحكم هو تزوير للتاريخ أو تفسير مغرض لوقائعه، والغرض هو كما أسلفنا هو تأثيم فكرة الديمقراطية التعددية والمسئولية الحكومية، والانتخابات بوصفها مرادفة للفوضى، ومعطلة لتحقيق الأهداف الوطنية، ومن ثم تسويغ نظام يعادى أو يزدرى كل هذه المبادئ، بدعوى أنه الأقدر على تحقيق تلك الأهداف، رغم أن هذا النظام لم يستطع فى أية مرحلة من مراحلة الوفاء بهذه الوعود، فما هى إلا أن تتحقق بعض الإيجابيات فى السنوات الأولى لكل عهد، حتى تترى الانتكاسات والكوارث، لتبقى المحصلة النهائية أزمات فى كل المجالات، وهذا حديث آخر خضنا فيه كثيرا من قبل هنا، وفى صحف ومحافل أخرى.
نقلا عن الشروق
أرسل تعليقك