بقلم : محمود خليل
آفات أخلاقية كثيرة ضربت خريطة النفس المصرية مع توالى سنوات حرب اليمن. كان أخطرها على الإطلاق صعود قيمة الاستهلاك فى حياة المصريين بصورة منذرة بآثار مروعة على أخلاقياتهم. كل حرب ولها وجوه خسارة وأيضاً وجوه مكسب. منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية والمصريون يتندرون على «أغنياء الحرب» الذين ساعدهم توقف شحن البضائع من الخارج بسبب الحرب وارتفاع أسعار السلع على مراكمة ثروات هائلة. الأمر نفسه ينطبق على حرب اليمن التى دخلتها مصر عام 1962، وانسحبت منها بعد نكسة عام 1967.
بعد ثورة يوليو 1952 قلت السلع المستوردة داخل الأسواق المصرية، وسادت السلع المحلية الأسواق. كان المحظوظون -من أغنياء الثورة الجدد- فقط هم من يستطيعون الحصول على المستورد، حين تتيح لهم الظروف السفر خارج البلاد. كانت اليمن مصدراً مهماً من مصادر الحصول على السلع المستوردة، بدءاً من المكسرات ومروراً بالأجهزة الكهربائية وانتهاءً بأطقم الصينى، وعلى هامش البضائع التى كانت تتدفق من هناك نشأت فى مصر سوق جيدة لبيع هذه السلع. وأصبح طموح بعض الشباب السفر إلى هناك وهم لا يعلمون ما يخبئه لهم القدر فى جبال اليمن وأرضها الممتدة، كان تفكيرهم منصرفاً إلى الجنيهات الغزيرة التى سيحصدونها كمرتبات، والسلع المشتهاة التى سوف يعودون محملين بها إلى أسرهم التى لم تكن أقل تطلعاً من أبنائها إلى ما تتزاحم به أسواق اليمن. والأمر نفسه كان ينطبق على غزة التى كانت تزخر أسواقها هى الأخرى بالسلع المستوردة التى يحصل عليها من تسوقهم مهام الإشراف الإدارى المصرى على هذا الجزء من الديار الفلسطينية إلى هناك.
فى غمرة التطلع إلى الجديد والمثير من السلع التى تموج بها الأسواق الخارجية، ولا تتوافر داخل مصر، تناسى البعض النتائج الخطيرة التى ترتبت على طول فترة مشاركة مصر فى حرب اليمن والخسائر التى منينا بها هناك. بذرة التطلع التى غرست فى النفس المصرية خلال هذه الفترة نمت وأزهرت خلال حقبة السبعينات، عندما تبنى الرئيس السادات سياسة الانفتاح الاقتصادى. من عاصر هذه الحقبة يتذكر كيف كان ينظر المصريون إلى المنطقة الحرة ببورسعيد، وكيف مثلت المدينة الباسلة التى صمدت فى وجه عدوان 1956 أكبر «قبلة استهلاكية» للمصريين، وكيف كانت تنظم الرحلات داخل المدارس وبين الأقارب والأحباء لزيارة المدينة المحظوظة والعَبّ مما تمور به أسواقها من سلع لا تتوافر فى المحافظات المصرية. ولعلك تذكر أيضاً الأحاديث التى كان يتبارى فيها بعض المصريين فى سرد حيلهم العجيبة والغريبة فى التهرب من الجمارك بالملابس المستوردة والساعات وعلب الكومبوت واللبان المستورد. بذرة التطلعات الاستهلاكية غرست فى النفس المصرية خلال حرب اليمن واستوت على عودها فى بورسعيد.
وضعت نكسة 1967 كلمة الختام فى حرب اليمن، عندما قرر الرئيس جمال عبدالناصر سحب بقية القوات المصرية فى اليمن (وعددها 50 ألف مقاتل) لحاجته إليهم على الجبهة وتدخل رئيس وزراء السودان أحمد محمد محجوب لإصلاح ما انكسر فى العلاقة بين مصر والسعودية والترتيب لعودة القوات المصرية من هناك، وكأن الأقدار شاءت أن تضمد مصر جراحات حرب اليمن بجرح أكبر فى سيناء
أرسل تعليقك