بقلم - أمينة خيري
لا يسعنى أن أرى الوضع الحالى إلا فى سياق كونه نظاماً عالمياً جديداً جار تحميله. وسواء كان كورونا المستجد مسرباً من معمل بحثى أو ناجماً عن تعدٍ على التوازن البيئى أو وباءً شأنه بقية الأوبئة، يبقى العالم ما بعد كورونا مختلفاً عنه قبلها. وهذا الاختلاف جار الآن العمل على وضع أساساته، وتشييد أركانه، وضبط زواياه. هذه التجهيزات ليس جميعها مرئيا رؤى العين. بل إن البعض منها يسحبنا بتفاصيله بعيداً، ويغرقنا عامداً متعمداً فى أيديولوجيات أكل عليها الزمان وشرب وبال. هذا البعض يمضى بسرعة الصاروخ مفسحاً لنفسه مكاناً وموقعاً ومكانة مدروسة ومخططة ومعروفة الأهداف والأبعاد. وبينما هو يركض ويهرول، يتصرف كأفلام الأكشن، فيترك وراءه بقعة زيت كى نتزحلق عليها ونكسر جذور رقابنا، أو يدحرج براميل تصطدم بنا وتعرقلنا، أو يمعن فى نشر الزجاج المكسور فنتفرغ لسنوات طويلة فى إخراج الجزيئات من أقدامنا. وما إقدامنا على إيجاد مكان ومكانة لأنفسنا فى النظام العالمى الجديد فى ظل كورونا إلا علامة وأمارة على أننا ربما تعلمنا الدرس القاسى. الدرس القاسى الذى دفعنا إلى التحجر والجمود على مدار عقود سابقة يدفع بالقيادة السياسية الآن ليس فقط إلى الدفاع والحماية، لكن أيضاً إلى إيجاد مكان ولا أقول «استعادة» لأن المقاييس اختلفت، وضمان مكانة وأيضاً لا أقول استعادة لأن معايير مكانة الأمس القائمة على الحضارة ذات السبعة آلاف سنة والجو اللطيف طول السنة والموقع الاستراتيجى بين ثلاث قارات... إلخ، لم تعد وحدها تفى بالغرض. لكن أن تبقى القيادة السياسية فى واد، والشعب فى واد، فهذا مكمن خطورة. والمقصود ليس دفع الشعب إلى الهبد الاستراتيجى أو الإفتاء العسكرى أو الرزع الإلكترونى، لكن المقصود هو أن نعى أننا مقبلون فعلياً على نظام عالمى جديد. هذا النظام سيكون له قوى عظمى سياسية، وترتيبات مختلفة عسكرية، وأسواق عمل مختلفة، وطرق تعليم مغايرة، ومكون تقنى مختلف تماماً، وتفاصيل حياة يومية لا يمت أغلبها بصلة لما اعتدناه. غاية القول إن هذا النظام العالمى الجديد ديمقراطى بشدة، فهو لن يجبر أحداً على الانضمام أو الانتماء له، لكنه سيدهس من لا يلحق به دهساً شديداً. فإن نحن صممنا على استمرار إلهاء أنفسنا بقواعد النكاح وأصول دخول الحمام ومعايير الجمع بين أكثر من زوجة وحرمانية إلقاء السلام على غير المسلم، أو إغراق أنفسنا فيما قاله مرتضى للخطيب، وما ارتدته الفنانة من فساتين، وما فعلته الفتاة فى تيك توك، أو الخوض فى جدليات أبدية حول إذا ما كان الفيروس بلاء أم ابتلاء، فلا نلومن إلا أنفسنا حين تتضح معالم النظام الجديد ونجد أنفسنا خارج الزمن. لكن مطلوب كذلك إيجاد منصات سياسية حقيقية لا كرتونية- كتلك المهيمنة على الساحة- تساعدنا على الاندماج من أجل ضمان المكان والمكانة.
أرسل تعليقك