بقلم - عبد الله السناوي
بقرب مئوية ثورة (1919) يتوجب الالتفات إلى ضرورات إحياء الإرث الوطنى المشترك باختلاف مدارسه وتجاربه، وعدم إهدار خبرة التاريخ حتى لا نعود عند كل منعطف إلى نقطة الصفر من جديد.
رغم أية مساجلات فإنه إرث واحد وثورة واحدة متعددة الحلقات، أضافت فى العمق كل منها للأخرى ومهدت لها.
لا يعنى ذلك إغفال التباينات والأخطاء الفادحة التى وقعت، أو التمويه على التناقضات، وإنما وضعها فى إطار موضوعى تتعدد القراءات فيه دون نفى ما هو ثابت من التاريخ بالضرورة من تحولات ومعارك وقيم جرى الدفاع عنها.
عندما لا نصحح فإننا نظلم الذين ضحوا بشرف لصالح من صعدوا بلا استحقاق.
إذا ما نظرنا فى مرآة الأدب فهناك ثلاث روايات تخيلية «أمام العرش» لـ«نجيب محفوظ» (١٩٨٤) و«قائع ما حدث فى يوم القيامة بمصر» لـ«بكر الشرقاوى» (١٩٨٧) و«كتاب التجليات» لـ«جمال الغيطانى» (١٩٩٧) اقتربت من ثورتى (1919) و(1952) برؤى مختلفة، عكست شيئا من الحنين وقدرا من النقد، ربطت الماضى بالحاضر المأزوم وحاولت أن تستشرف المستقبل الغامض.
فى «قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر»، جرت محاكمة افتراضية لـ«جمال عبدالناصر» ترأسها «أوزوريس».
المحاكمة شملت كل من أسبغت عليه الرواية صفة الخلود من حكام مصر منذ «مينا» موحد القطرين.
على طريقة «مارك أنطونيو» فى رثاء «يوليوس قيصر» مازج نص «نجيب محفوظ» بين المدح والقدح.
فهو «يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده»، وهو «نجح فى أن يجعل هزيمته تفوق كل نصر»، و«الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل، كما حدث فى عهده»، لكنه «شطب اسم مصر الخالد بجرة قلم»، و«فاق اهتمامه بالوحدة العربية على الوحدة المصرية»، و«اضطر العديد من أبناء مصر إلى الهجرة، التى لم يمارسوها إلا فترات قهر عابرة!».
«على الرغم من نشأته العسكرية، فقد أثبت قدرة فائقة فى كثير من المجالات إلا العسكرية، بل لم يكن قائدا ذا شأن بأى حال من الأحوال!».
ثم إنه حاول محو اسم «سعد زغلول» من الوجود كما جاء الكلام منسوبا إلى زعيم ثورة (١٩١٩) فى المحاكمة التخيلية.
«جاءت ثورتك فتخلصت من الأعداء، وأتمت رسالة ثورتى عرابى و١٩١٩ وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكرى، إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا لكنك انتهجت حكما استبداديا هو المسئول عن جميع ما حل من سلبيات ونكبات».
كأى عمل فانتازى فإنه يحمل آراء وتصورات مؤلفه فى النظر إلى التاريخ ووقائعه وأبطاله.
بالتكوين الفكرى لـ«نجيب محفوظ»، فهو وفدى الميول.
لم يكن بالغ الإعجاب بـ«سعد زغلول»، الذى نسب إليه فى محاكمة أخرى بذات الرواية، أنه قد تعامل مع الاحتلال بعد هزيمة الثورة العرابية، وأن ثورة (١٩١٩) قد باغتته دون أن يكون له دور كبير فى إطلاقها.
كان «مصطفى النحاس» خليفة «سعد» هو مثله الأعلى، وفى محاكمته الافتراضية لم يوجه له أى نقد من أى نوع، ولا بأى درجة وأدخله سجل الخالدين بلا أى سؤال عن حادث (٤) فبراير (١٩٤٢) الذى قبل به الحكم على أسنة الحراب البريطانية.
مضت أغلب محاكمات حكام العصور الحديثة بشىء من التوازن أحيانا، والتحامل أحيانا أخرى.
تقتضى الفانتازيات الالتزام بالوقائع التاريخية دون تحريف وإطلاق الحوارات الافتراضية، بما يتسق مع الطبيعة المعروفة للشخصيات لبناء تصورات جديدة لها.
بدت شخصية «عبدالناصر» فى «أمام العرش»، كما لو كانت مرآة للعمل كله، تفسره وتفك ألغازه، كما بدا العمل نفسه مرآة أخرى لأعمال «نجيب محفوظ».
فى رواية «بكر الشرقاوى»، «وقائع ما حدث فى يوم القيامة بمصر»، استلهام آخر للإرث الفرعونى، فـ«عبدالناصر» هو «أوزوريس»، الذى مزقه «ست» فى الأسطورة المصرية القديمة إلى أشلاء وناضلت «إيزيس» من أجل تجميع جسده الممزق.
«سيادة الرئيس.. لماذا اختفيت فجأة..؟
ومن قال إنى اختفيت.. إنى ما زلت موجودا فى مصر، فى عمق مصر، فى كل أعماقها».
السؤال والجواب كانا موضوعا لأعمال روائية عديدة تخيلت عودة «عبدالناصر»، وأسقطت على ما تخيلته رؤيتها وانحيازاتها ونظرتها إلى الواقع وتحدياته.
الفكرة فى ذاتها تعبير عن قوة الحنين إليه، إلى شىء من عصره انقضى فعله.
من موقعه القديم فى ميدان «باب الحديد»، تحرك تمثال «رمسيس الثانى»، كأنه اكتسب صفته الإنسانية، متجها وسط ذهول الناس إلى «كوبرى القبة»، حيث دفن «جمال عبدالناصر».
أمام الضريح يقول فى بطء مهيب: «السلام عليك يا عبدالناصر يا عدو أعداء مصر ومحاربهم».
«قم يا عدو بنى إسرائيل فأنت تعرفهم أنت آخرنا، أول القادمين.. قم إليهم.. قم إلى مصر والعالم كله».
تبدأ بعودته قصة جديدة افتراضية فى المواجهة.
ينتقل «عبدالناصر» إلى حلوان أهم مناطق مصر الصناعية، وإلى الريف والجامعات يخطب ويحرض على «الثورة»، ويجدد فى فكرها ويضيف الديمقراطية السياسية إلى مشروعه، ويبدأ فى كتابة الجزء الثانى من «فلسفة الثورة».
رغم قوة الحنين فى رواية «بكر الشرقاوى» إلا أن إشارتها لأزمة الديمقراطية السياسية حملت نقدا ضمنيا لتجربة ثورة «يوليو».
عندما نشرت الرواية عام (١٩٨٧) وصفها الناقد الأدبى الدكتور «لويس عوض»، رغم انتقاداته لـ«يوليو»، فى مقال نشرته «الأهرام» بأنها أفضل رواية فى العشر سنوات الأخيرة.
وفى «تجليات الغيطانى» فاجأت «عبدالناصر» العائد «أعلام العدو فأمر بتنكيس الأعلام وإزالتها من فضاء القاهرة، وأمر بإلقاء القبض على جميع أفراده المتواجدين فى الديار من سفير وأعضاء سفارة، و.. لم يجد قلما وشعارا يوقع به فطاف بالميادين يزعق ويصيح، فالوسائل معدومة والحيلة واهية، والقدرة قصية، والوجوه غريبة، والسحن غير معتادة، والأيام غير الأيام والزمن خلاف الزمن».
«من الحوارى خرجت النسوة حاسرات ومصفقات ضارعات شاكيات ارتجفت صدور وأينعت قلوب واختفى آخرون، وفجأة خرج جند كثر يقودهم ضابط صغير يرتدى حلة سوداء غريبة مليئة بالجيوب والطلقات أشهر خنجرا دفع عبدالناصر فى صدره، وأومأ فتدافع الجند اقتدوه فتفرق الخلق، ونزل صمت بغيض ثقيل فأينعت الهموم وتدفقت مياه جديدة فى أنهار البلوى».
من فرعونية «بكر الشرقاوى» إلى صوفية «جمال الغيطانى» بدا حضور «عبدالناصر» قويا إلى درجة استدعائه لإبداء رأى فيما هو جار من أحداث وتحولات.
الأول بدا كما لو كان يتنبأ بثورة جديدة.. والثانى توقع إجهاضها.
هذا ما حدث فى «يناير 2011»، التى استقرت رغم ذلك الإجهاض فى وجدان الأجيال الجديدة من المصريين.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك