بقلم - عبد الله السناوي
فى الثامنة من عمره، وهو بالكاد يدرك ما حوله، تناهت إلى مسامعه فى النصف الثانى من عام (1967) قصص وحكايات؛ حيث ذهب وحل عن اغتيال الزعيم الأممى «تشى جيفارا» فى أحراش بوليفيا تحت إشراف الاستخبارات الأمريكية.
استقرت فى وجدانه أسطورة «جيفارا»، القيم التى دعا إليها والعالم الذى بشر به، لكنه لم يخطر بباله ولا ببال أحد آخر من السكان الأصليين لبلدته النائية فى الجنوب الغربى لبوليفيا أن يصبح رئيسا لبلاده، كأول «هندى أحمر» فى أمريكا اللاتينية يصل إلى مقعد الرجل الأول، أو أن يقف فى نفس المكان الذى اغتيل فيه «جيفارا» لإحياء ذكراه باسم بوليفيا فى نوع بليغ من الاعتذار التاريخى.
تماهت صورة «جيفارا» الأخيرة مع فكرة «المسيح يصلب من جديد»، التى تمثلها الروائى اليونانى «نيكوس كازنتزاكيس»، وألهمت أجيالا متعاقبة، غير أن «إيفو موراليس» لم يتبع تجربته فى حرب العصابات.
جرت تحولات جوهرية فى أمريكا اللاتينية تجاوزت فعل السلاح إلى طلب الديمقراطية ومازجتها مع العدالة الاجتماعية ووحدة القارة وتحررها.
بالوسائل الديمقراطية تمكن «موراليس»، أحد أبرز قادة نقابة مزارعى نبات «الكوكا» التى تضم مئات آلاف المزارعين، من الوصول إلى رئاسة بلاده ضمن موجة يسارية اجتاحت عددا كبيرا من دول القارة عملت على الخروج من التبعية الأمريكية والانحياز للمعوزين والفقراء.
لم تكن مصادفة أن تعود أغلب إسهامات «نظريات التبعية»، التى سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة إلى اقتصاديين لاتينيين.
كانوا كبلدانهم وأدبائهم مسكونين بوطأة الانقلابات العسكرية، التى ترعاها الاستخبارات الأمريكية، وما ترتكبه من مجازر دموية كالتى حدثت فى «تشيلى» على يد الجنرال «أوجستو بينوشيه» ضد أنصار الرئيس «سلفادور الليندى»، أو بالنهب المنظم الذى ترتكبه الشركات الدولية بالتعاون مع شبكة فساد تتحكم فى مقاليد السلطة.
كان ذلك تحولا تدريجيا وراسخا من حرب العصابات إلى الدولة الديمقراطية الحديثة.
أخطر ما يترتب على إطاحة «موراليس» بالطريقة التى جرت بها، رغم أى أخطاء منسوبة إليه، العودة مرة أخرى إلى مربع حرب العصابات، التى استدعتها الأنظمة الفاشية.
بتعبير «موراليس»: «إن الدول التى لا تقدم أدنى الخدمات فى مجالات الصحة والتعليم والتغذية لمواطنيها تنتهك يوميا أبسط حقوقهم الأساسية».
نجحت تجربته فى محاربة الفقر المدقع ببلاده؛ حيث تراجعت معدلاته بصورة كبيرة وتحسنت الخدمات العامة وأنشئت مدارس ومستشفيات تعالج الفقراء فى المناطق النائية.
ينسب له أكثر من غيره أنه قاد أوسع عملية تحرير للهنود الحمر الذين يعانون التهميش وإنكار أى حقوق أساسية لهم فى الصحة والتعليم والثروة والترقى الاجتماعى.
لا يصح أن ينسى أحد فى العالم العربى أنه انحاز للقضايا العربية وكان من أقوى أنصار القضية الفلسطينية فى القارة اللاتينية، قطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع إسرائيل بعد الجرائم التى ارتكبتها فى الحرب على غزة عام (2009) قبل أن يعلن الدولة العبرية كيانا إرهابيا عام (2014).
من المثير أن إطاحته من الحكم جرت بنفس توقيت العمليات العدوانية الإسرائيلية الجديدة على غزة المحاصرة.
سياساته أكسبته شعبية كبيرة فى بلاده لكنها أخذت فى التآكل التدريجى بالتلاعب فى الدستور وإلغاء أية قيود على فترات تولى الحكم، بما مكن من الانقلاب عليه تحت وطأة الانقسام الداخلى.
انقلاب بوليفيا لم يتبع الصورة القديمة للانقلابات فى القارة، اللعبة اختلفت هذه المرة.
جرى ترويع «موراليس» ومن معه باقتحامات المنازل من مسلحين مجهولين، الشرطة تمردت والجيش طلب استقالات جماعية باسم الحفاظ على سلامة البلاد.
حملة الاستقالات شملت وزير الدفاع بدعوى الحفاظ على وضع القوات المسلحة فى خدمة الشعب ثم تلتها إقالات فى صفوف القيادات العسكرية أعلنتها الرئيسة المؤقتة «جانين آنيز» فور أداء القسم الدستورى.
لم يكن ممكنا أن تتولى النائبة الثانية لرئيسة مجلس الشيوخ «آنيز» الرئاسة المؤقتة ما لم تجبر رئيسة المجلس ونائبها الأول، وهما من أنصار «موراليس» على الاستقالة.
فى تتابع الحوادث ما يكشف عن تخطيط محكم باستغلال أخطاء «موراليس» وتراجع شعبيته بأثر البقاء الطويل فى السلطة لنحو أربعة عشر عاما.
أعلنت منظمة الوحدة الأمريكية ومقرها واشنطن تزييف نتائج الانتخابات الرئاسية فى بوليفيا، وهو أمر يصعب تصديقه بالنظر إلى غياب أية منافسة حقيقية مع «موراليس»، قبل أن تتداعى الحوادث بأعمال عنف وترويع وانفلات أمن وتمردات داخل مؤسسات الدولة.
الأغرب أنه قد جرى اعتماد «آنيز» دون أن تحصل على أى تصديق من مجلس الشيوخ الذى يسيطر على أغلبيته الساحقة أنصار «موراليس».
ما حدث فى بوليفيا يكاد أن يكون استنساخا لسيناريو لم يتسن له أن يتحقق فى فنزويلا للتخلص من رئيسها «نيكولاس مادورو».
فى فنزويلا جرت محاولات اغتيال للرئيس وفرض حصار قاس على بلاده زكت الإدارة الأمريكية الاضطرابات الداخلية، وحرضت الجيش على الانقلاب واعترفت بزعيم المعارضة «خوان جوايدو» رئيسا مؤقتا دون سند ديمقراطى أو دستورى.
«جانين آنيز» هى الوجه البوليفى لـ«خوان جوايدو».
هكذا بوضوح كامل دون شك فى طبيعة اللعبة.
لم تكن مجرد مسألة تضامن أن يدعو «مادورو» الجيش البوليفى إلى إعادة «موراليس» إلى الرئاسة فهو من ناحية يستعيد تجربة عودة سلفه وقائده «هوجو شافيز» إلى السلطة بعد أيام من الانقلاب عليه، وهو من ناحية أخرى يدافع عن بقائه هو فى السلطة، حيث يحظى بدعم جيشه حتى الآن.
القضية ليست «موراليس» ومستقبله بقدر ما هى الخشية من أن تعود أمريكا اللاتينية إلى الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية التى ترعاها الاستخبارات الأمريكية والنهب المنظم لثرواتها الطبيعية وتغييب أية آليات ديمقراطية حديثة تضمن عدم انفجار الانقسام الحاد بين اليمين واليسار.
كل قوى اليسار أعلنت وقوفها مع «موراليس» وكل قوى اليمين باركت الانقلاب عليه.
هذا وضع منذر بانقلابات جديدة وحروب عصابات تستدعى ذاكرتها من التاريخ المعاصر.
أرسل تعليقك