بقلم - عبد الله السناوي
إنه أكثر الأسئلة جوهرية فى قضية إصلاح الخطاب الدينى، التى تطرح نفسها بشىء من الحدة على السجال العام فى مصر من وقت لآخر.
أسوأ الإجابات ألا تكون هناك إجابة وتبادل الاتهامات دون أن يكون واضح الإطار العام والتوجه الرئيسى، أو المقصود بإصلاح الخطاب الدينى، كأن السجال كله معلق على فراغ التأويلات والنوايا وبعض الكلام يتفلت ويؤذى قضيته.
إذا كانت الإجابة دولة مدنية ديمقراطية حديثة على ما يقضى الدستور فإن للإصلاح ضروراته وأصوله وقواعده.
المدخل الرئيسى لإصلاح الخطاب الدينى هو إرساء قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة والفصل بين الدينى المقدس والسياسى المتغير ومنع إنشاء الأحزاب على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل، أو على أساس طائفى أو جغرافى، أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، أو سرى أو ذى طابع عسكرى أو شبه عسكرى، وأن تكون سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة، وذلك كله وفق القواعد الدستورية.
ذلك ليس مسئولية الأزهر ولا يدخل فى طبيعة أدواره.
بنص التعريف الدستورى فهو «المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم» وشيخه «مستقل وغير قابل للعزل ويجرى اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء».
وفق ذلك التعريف لا يصح إغفال مرجعية الأزهر فيما يخص العلوم الدينية والدعوة، أو التقليل من شأنها الروحى، أو فرض وصاية عليه أن يفعل أو لا يفعل دون أن يكون مقتنعا بأنه يخدم صحيح الدين.
بالنظر إلى طبيعة الأزهر فهو مؤسسة دينية، بعض إرثها التاريخى تقليدى ومحافظ، وبعضه الآخر متشدد ومتشكك فى دعوات إصلاح الخطاب كأنها تعادى العقيدة، وبعضه الثالث منفتح على العصر دون تساهل فى الأصول وبعضه الرابع يمضى كما هو معتاد على إيقاع السلطة ـ أية سلطة.
أسوأ مدخل للإصلاح هو اصطناع فجوات وصدامات تفضى عمليا فى نهاية المطاف إلى إثارة الشبهات دون داع على قضية لها ضروراتها.
هناك فارق بين النقد والإجحاف.
النقد طبيعى ومشروع والإجحاف تجاوز للحقائق.
مما هو تحت مجهر النقد أن بعض مناهج الأزهر الدراسية تناقض روح العصر وتصادم قيم المواطنة، وأنه لم يقم بما هو كاف لتنقيتها وفق صحيح الإسلام ووسطيته والتصدى لأية روايات فى التراث تسىء إلى الدين وتوسع دوائر الإلحاد به.
هذا النوع من النقد له أساس وعليه أدلة ويستحق النظر فيه بجدية.
ومما هو تحت مجهر النقد شيوع التسلف بين بعض علمائه وأنه يؤسس للتشدد والعنف.
إطلاق الكلام على عواهنه خطر حقيقى على الأزهر الشريف، كما على قضية إصلاح الخطاب الدينى.
لا يعقل أن ينصب شيخ الأزهر محاكم تفتيش للضمائر والأفكار، يفصل ويعاقب بناء على الآراء والاعتقادات، دون أن يكون هناك حوار حقيقى يؤسس لإصلاح حقيقى فى الخطاب الدينى.
الإصلاح قضية فكرية فى المقام الأول لا تصلح معها التعليمات والأوامر.
المشكلة أن ما هو متشدد وعنيف زاده الفكرى متوارث ومتوافر فى كتب تطبع وتوزع خارج الأزهر، لا هو طارئ ولا عابر، ولا يمكن كسب المعركة معه بالشعارات العامة والاتهامات المرسلة.
يقال ـ عادة ـ الفكر يواجه بالفكر.
البيئة الطاردة التى تحجب حرية الفكر والرأى وحرية البحث العلمى وحرية الإبداع الفنى والأدبى وحرية الاعتقاد المطلقة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، وكلها منصوص عليها فى الدستور القانون الأعلى فى البلاد، تجعل أى حديث عن مواجهة الأفكار المتشددة محض دعايات، كأنها سراب فى متاهات بلا نهاية.
بصياغة أخرى الأزهر ليس هو عنوان إصلاح الخطاب الدينى إلا بقدر ما تساعده البيئة العامة.
لم تكن مصادفة توقيت أن يسعى شيخ الأزهر المجدد «محمود شلتوت» فى ستينيات القرن الماضى للتقريب بين المذاهب الإسلامية مجيزا التعبد بمذهب الشيعة الاثنى عشرية.
كانت مصر فى ذلك الوقت تقود حركات التحرير الوطنى بالعالم الثالث، تتبنى مشروعا وحدويا عربيا لا مذهبيا منغلقا، فجاء الاجتهاد الأزهرى متسقا مع العصر وروحه وحركة الحوادث التى تدعو للوحدة لا الفرقة بين المذاهب الإسلامية، كما بين المسلمين والمسيحيين.
كانت تلك ثورة حقيقية داخل جدران الأزهر الشريف لا مجرد إصلاح يضبط بعض الكلام ويعدل فى بعض المناهج.
أى رهان على أن يضطلع الأزهر الشريف بخطوات من مثل هذا الحجم دون بيئة عامة تحتضن وتذكى تحليق فى الأوهام.
فى العصر الحديث تولى الإمام «محمد عبده» مسئولية التجديد والإصلاح فى الخطاب الدينى، لم يكن ذلك عملا مؤسسيا بقدر ما كان اجتهادا فكريا لرجل شغلته قضايا دينه وزمنه.
تتلمذ «محمد عبده» على «جمال الدين الأفغانى»، والتحق بالثورة العرابية، وعندما اجهضت بقوة السلاح البريطانى عام (1882) احبطته النتائج وبدا له أن المستقبل المصرى مرهون بالإصلاح والتعليم.
بعده لم يخرج مجتهد بحجم تأثيره، وكانت تلك مأساة ممتدة.
بعد سقوط الخلافة العثمانية عام (1923) بدا أقرب تلاميذه «محمد رشيد رضا» أبا روحيا لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين «حسن البنا» (1928).
رغم ذلك علت أصوات مجددة تلقت علومها الدينية فى الأزهر الشريف، كالشيخ «على عبدالرازق» صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الذى أثبت فيه أنه لا يوجد دليل شرعى على الخلافة، ولا شكل معين للدولة فى الإسلام شرط أن تلتزم بالمقاصد الكلية للشريعة.
كانت تلك ثورة فكرية أدت فى زمنها إلى ما يشبه الزلزال فى الفكر السياسى، كما فى الخطاب الدينى، حيث نشر (1925) بعد عامين من سقوط الخلافة العثمانية.
لم يكن ذلك أيضا عملا مؤسسيا جرى من داخل الازهر الشريف، لكنه اجتهاد مفكر اتاحت له حرية النشر حق الاجتهاد وسمح إطلاعه على عصره فى الجامعات البريطانية فى أن تتسع نظرته على حقائق عالمه بعد الحرب العالمية الأولى.
فى توقيت مقارب بدا كتاب الدكتور «طه حسين» «فى الشعر الجاهلى» اجتهادا صادما توصل إلى أن الشعر الجاهلى كتب بعد الإسلام وفق مبدأ الشك «الديكارتى.
كان الصدمة ثورة ثالثة فى مناهج البحث وحرية الاجتهاد أثارت سجالات ومعارك على ورق وجرت ملاحقات ومحاكمات انتهت بتبرأته من التهم التى نسبت إليه.
لم يكن ذلك عملا مؤسسيا بقدر ما كانت بيئة عامة تستجيب لتحديات وقتها وتطرح على العقل العربى قضايا جديدة لم يألفها.
بالتكوين الأساسى هو ابن الأزهر لكن ظروفه سمحت بتلقى تعليم عال فى الجامعات الفرنسية فأعمل المناهج الجديدة بمعايير وقتها فى التراث العربى.
إذا غابت حرية التفكير والبحث فإن مستقر الكلام كله مقابر الصدقة.
إنها مسألة بيئة تحرض على الحوار وتفسح فى المجال العام وتتقبل الاختلاف فى الرأى ولا تحرض عليه وتلتزم القواعد الدستورية الحديثة فى إدارة الشأن العام.
وهذه ليست مسئولية الأزهر.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموق
أرسل تعليقك