بقلم - محمد السعيد إدريس
لسنوات طويلة مضت، امتدت لعقود، نجح الفكر الإستراتيجى الإسرائيلي، معتمداً على مؤسسات فكر وإعلام ولوبيات (جماعات مصالح) مؤيدة وداعمة قريبة من دوائر صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية، فى ترسيخ مفهوم إستراتيجى للعلاقات الخاصة جداً التى تربط إسرائيل بالولايات المتحدة. هذا المفهوم هو «الدولة الوظيفية»، بمعنى أن هذه العلاقة الخاصة والفريدة جداً التى تربط الولايات المتحدة بإسرائيل منذ بداية عقد الستينيات من القرن الماضى تقريباً، وما تفرضه من دعم أمريكى عسكرى ومالى وتكنولوجى واستخباراتى وإعلامى وسياسى للكيان الصهيونى مرجعها هو الدور الوظيفى الذى تقوم به إسرائيل فى الدفاع عن المصالح الأمريكية، مما يعنى أن إسرائيل تملك من القوة المتفوقة ولديها من العزيمة والولاء لواشنطن ما يكفى لجعلها وكيلة أعمال الدفاع عن المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط.
هذا المعنى استعاده بـ «حسرة شديدة» الكاتب الإسرائيلى «إيال زيسر» فى صحيفة «إسرائيل اليوم» (إسرائيل هيوم) الموالية لرئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو (3/12/2018) وهو ينتقد بألم ما ورد على لسان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وفى توضيحه لأسباب الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا. إيال زيسر اقتبس الفقرة المحورية التى أثارت غضبه ورفضه الشديدين فى مداخلة الرئيس الأمريكى فى مقاله المشار إليه الذى نشره تحت عنوان: «رياح شريرة من الانقسام السياسى تهب فى واشنطن». كتب زيسر: «فاجأنا الرئيس ترامب الأسبوع الماضى حين أعلن أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ليس لها سبب للبقاء فى الشرق الأوسط، كونها لم تعد بحاجة إلى النفط العربي، فإنها قررت إبقاء قواتها فى المنطقة، بسبب التزامها تجاه إسرائيل. وقد جاء هذا التصريح بعد نحو أسبوع من شرحه بأنه يؤيد ولى العهد السعودى فى قضية قتل الصحفى خاشقجي، وبأن إسرائيل ستكون فى مشكلات عويصة دون السعودية».
ما فهمه الكاتب الإسرائيلى من هذه الفقرة المقتبسة من تصريحات الرئيس الأمريكى التى تكشف هو أن الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط (سوريا خصوصاً) أضحى من أجل الدفاع عن إسرائيل، وأن انحيازه لولى العهد السعودى هو أيضاً من أجل إسرائيل هذا الفهم كان له وقع الصدمة داخل الكيان الصهيوني، لأنه يبدد نظرية «الدولة الوظيفية» التى ظل الإسرائيليون يروجون لها داخل أروقة صنع القرار الأمريكى لإجبار الولايات المتحدة على المزيد من «الانحياز الأعمى» فى الدفاع عن الكيان الصهيونى حتى لو كان هذا الانحياز تجاوزاً مريعاً لقرارات صدرت عن الشرعية الدولية ولقواعد أرساها القانون الدولي.
احتجاجات الكاتب الإسرائيلى على تصريحات الرئيس الأمريكى لم تأت فقط من الخشية على إسرائيل من تداعيات هذا التصريح على الرأى العام الأمريكى إزاء إسرائيل فقط سواء الخوف من أن يجرى تحميل إسرائيل مسئولية ما تنفقه الولايات المتحدة على وجودها فى الشرق الأوسط واتهامها بأنها وراء تبديد أموال دافعى الضرائب الأمريكيين أو حتى الخوف من تحميل إسرائيل مسئولية موت أو إصابة أى عسكرى أمريكى فى الشرق الأوسط، لكن الدافع الرئيسى لهذه الاحتجاجات هو كشف حقيقتين ترفضهما إسرائيل لتأثيرهما التدميرى على نظرية الأمن الإسرائيلية وعلى الوجود الإسرائيلى ذاته.
الحقيقة الأولى أن إسرائيل لم تعد قادرة على أن تدافع عن أمنها بل ووجودها، وأنها باتت فى حاجة إلى دعم وحماية أمريكية، وربما دعم من دول إقليمية، أما الحقيقة الثانية فهى تفكيك الرابطة الفريدة التى تربط إسرائيل بالولايات المتحدة وهى رابطة الدور الوظيفى الإسرائيلى فى حماية المصالح الأمريكية، إما لتراجع هذه المصالح، خاصة النفط، على حد قول ترامب، حيث أضحت الولايات المتحدة دولة منتجة ومصدرة للنفط والغاز أيضاً، وإما لأن القدرات العسكرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على حماية الأمن الإسرائيلى ذاته.
إدراك هاتين الحقيقتين على المستويين الإسرائيلى والإقليمي، خاصة العربى من شأنه أن يحدث تحولاً هائلاً فى معادلة الصراع المستقبلية من ناحية، لكن الأهم هو تأثيره من ناحية أخرى على إمكانية إعادة فرض قضية الوجود الإسرائيلى ذاته للبحث والنقاش، فى ظل المحاولات الإسرائيلية المستميتة لطمس حقيقة أن إسرائيل «دولة افتراضية» أو «دولة استثنائية» وليست دولة حقيقية لأنها قامت على أساس اغتصاب أرض وممتلكات وحقوق شعب آخر، هو الشعب الفلسطيني. فالوجود الإسرائيلى أضحى مهدداً من الآن فى ظل ما كشفه الرئيس الأمريكى من حقائق تتعلق بتدنى القدرات الإسرائيلية الذاتية فى الدفاع عن الوجود، وفى ظل تطورين آخرين أولهما نضوب منابع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتزايد معدلات النزوح منها بسبب اهتزاز الثقة الأمنية فى الدولة فى ظل كثافة التهديدات، وثانيهما ارتفاع معدلات النمو السكانى الفلسطينى مقارنة بنظيره اليهودى والذى من شأنه، خلال عشر سنوات أو عشرين سنة على الأكثر، أن يجعل اليهود أقلية فى دولة يريدونها «دولة يهودية».
السؤال الذى يخشاه الإسرائيليون ويهربون منه هو: كيف سيكون حال إسرائيل بعد عشرين عاماً من الآن فى ظل كل هذه التطورات؟ السؤال يعيدنا إلى سؤال آخر أكثر دلالة ورد على لسان بنيامين نتيانياهو ضمن احتفالات إسرائيل بعيد تأسيسها السبعينى فى مايو الماضى هو «هل ستحتفل إسرائيل بعيدها المئوي»؟!!
سؤال أجاب عنه الرئيس ترامب بصراحة زائدة فى تصريحاته الصادمة، ويجيب عنه أيضاً العجز الإسرائيلى فى إعادة تأكيد تفوق الردع الإسرائيلي، كما أكدته مواجهات غزة الأخيرة، وما تفضحه الآن مسرحية «عملية درع الشمال» التى يقودها نتيانياهو «لتدمير أنفاق يتهم حزب الله بحفرها لتهديد العمق الإسرائيلي»، دون قدرة منه على تجاوز هذا الدور الوقائى المحدود بشن حرب أو حتى التهديد بشن حرب على لبنان. فالعملية التى يجريها الجيش الإسرائيلى الآن تحت هذا العنوان الضخم «درع الشمال» ليست أكثر من عملية «علاقات عامة» على نحو ما يسخر الكاتب الإسرائيلى فى (هآرتس) «عاموس هرئيل».
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك