بقلم - محمد السعيد إدريس
بعد الفراغ من أعمال مؤتمرى »وارسو« الذى خططت له الولايات المتحدة لتأسيس تحالف دولى ضد إيران (13-14/2/2019)، وسوتشى الذى رتبت له روسيا مع حليفيها الإيرانى والتركى (14/2/2019) للإمساك بأوراق تطورات الأزمة السورية وضبط مساراتها بعيداً عن ضوضاء الوجود العسكرى الأمريكى الذى قرر الانسحاب بإرادة منفردة تاركاً حلفاءه يتخبطون فى البحث عن ملاذات للإنقاذ، بعد هذا كله كان السؤال الذى شغل جل المراقبين والمهتمين بأحداث الشرق الأوسط وتفاعلاته الصاخبة هو: إلى أين ستتجه الأحداث فى المنطقة بعد انتهاء هذين المؤتمرين بحلوهما ومرهما؟ الأمريكيون فشلوا بامتياز فى جعل مؤتمر وارسو منصة لتأسيس تحالف دولى ضد إيران، على غرار التحالف الذى سبق أن أسسوه لمحاربة تنظيم »داعش« الإرهابى. روسيا قاطعت المؤتمر واختارت أن تعقد مؤتمراً منافساً ومتزامناً مع المؤتمر الذى أعدت له واشنطن.أما الضربة الأهم فكانت من الحلفاء الأوروبيين حيث قررت الدول الكبرى فى الاتحاد الأوروبى تخفيض مستوى مشاركتها فى المؤتمر.
أوروبا فعلت ذلك لأنها تعارض الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى الموقع مع إيران، ولأنها حريصة أشد الحرص على أن تبقى إيران هى الأخرى ملتزمة بهذا الاتفاق ولا تنسحب منه. لذلك فشل مؤتمر وارسو فى الخروج بخطة عمل وآليات محددة لمواجهة «التهديد الإيرانى»، وكل ما تحقق هو أنه تحول إلى «عرس تطبيعى» للعلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.على الجانب الآخر، لم يفشل مؤتمر سوتشى فى أهدافه، لكنه لم يحقق اختراقاً له معنى فى أهم ملفاته:
ملف من سيملأ فراغ الانسحاب الأمريكى من شمال سوريا، وملف حسم مشكلة إدلب، وملف لجنة الدستور.البيان الختامى الذى صدر عن قمة سوتشى أكد أن الرؤساء «بحثوا الوضع فى شمال شرق سوريا، واتفقوا على تنسيق أعمالهم لضمان الأمن والاستقرار فى المنطقة مع احترام سيادة ووحدة الأراضى السورية«، كما أكد الرؤساء «عزمهم على إطلاق اللجنة الدستورية فى وقت مبكر» وبعد ذلك راح كل منهم يدافع عن مصالح بلاده فى سوريا.ففى حين اعتبر الرئيس الروسى أن نية واشنطن الخروج من سوريا «هى خطوة إيجابية» إلا أنه أكد أنه »يجب أن تستعيد دمشق السيطرة على هذه المنطقة« (شمال شرق سوريا)، أما الرئيس أردوغان فقد شدد على ضرورة «تطهير منطقة (منبج) وشرق الفرات من العناصر الانفصالية وتسليم المناطق للسلطة الشرعية» وأكد أن بلاده «تدعم فكرة المنطقة الأمنية (فى سوريا) بما يخدم إزالة مخاوفنا بشأن الأمن القومى».
فى حين أن الرئيس الإيرانى أبدى قلقه لما اعتبره «المؤامرة طويلة الأمد» الأمريكية ضد سوريا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة «لن تتوقف عن التدخل فى شئون سوريا».هذا التوافق المحدود فى الرؤى والمواقف بين أطراف قمة سوتشى لم يستطع الصمود أمام المفاجأة الأمريكية غير المنتظرة للجميع بالعدول عن الانسحاب الكامل من سوريا.
وبقدر ما أربكت هذه المفاجأة حسابات أطراف «قمة سوتشى» بقدر ما جدد فشل «مؤتمر وارسو» التحديات التى لم يستطع منظموه مواجهتها.فمظاهر السعادة التى اكتسى بها العشاء الشهير بين وزراء خارجية عرب مع رئيس الحكومة الإسرائيلية فى وارسو، لم تستطع إخفاء مشاعر البؤس والاكتئاب عند الإسرائيليين بسبب فشل مؤتمر وارسو فى التأسيس لتحالف دولى ضد إيران يعمل على الاتجاه الذى تريده إسرائيل بتحويل إيران إلى «المصدر الرئيسى لدعم الإرهاب وتهديد الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط». أفاق الإسرائيليون على حقيقة أنهم «وإن كانوا قد كسبوا بعض العرب، فإنهم خسروا روسيا وتركيا» وهما الطرفان المحوريان فى أى جهود حقيقية لاحتواء إيران، أو على الأقل لإخراجها من سوريا، وليس الشركاء العرب.
الوعى بهذه الخسارة قادهم إلى الوعى بخسارة أخرى، وهى مصداقيتهم فى التصدى لإيران أمام شركائهم العرب. تزعزع هذه المصداقية قد يؤدى إلى احتمال حدوث فتور فى اندفاعة التطبيع العربية مع إسرائيل والتى تأسست على توقعات بقدرات إسرائيلية كبيرة على احتواء الخطر الإيرانى. هذا كله عاد بالإسرائيليين إلى المربع الأول مجدداً وفرض عليهم السؤال الصعب المختلف على إجابته: هل الحرب هى الحل الوحيد الممكن مع إيران؟الإحباط الذى عاد به الإسرائيليون من وارسو امتد إلى الأتراك بعد عودتهم من سوتشى بسبب الإعلان الأمريكى عن الإبقاء على 400 جندى بعد سحب القوات الأمريكية من سوريا على أن يتم،
تقسيم هذه القوة بين المنطقة الأمنية التى يجرى التفاوض عليها فى شمال شرق سوريا وبين القاعدة العسكرية الأمريكية فى «التنف» التى تقع على الحدود بين سوريا والعراق والأردن. ليس هذا فقط بل إن واشنطن تعمل على أن يدفع الشركاء الأوروبيون بـ «1800 جندى» ليشاركوا مع القوة الأمريكية لتأسيس «المنطقة الأمنية» وللحيلولة دون تمكين تركيا من التنكيل بالحلفاء الأكراد السوريين.هذا القرار الأمريكى المفاجئ أعاد خلط الأوراق وأربك حسابات كل الأطراف وأولهم تركيا إضافة إلى روسيا وإيران وسوريا، وأعاد قدراً من الطمأنة إلى الحليف الإسرائيلى بإعادة تأكيد بقاء قوات أمريكية حتى ولو كانت رمزية فى سوريا وإلى الحليف الكردى، فى ظل ما أوضحه الأمريكيون من رفض أى انتشار للقوات التركية فى «المنطقة الأمنية» التى يجرى إعدادها فى شمال شرق سوريا.
واشنطن بهذه الخطوة تعيد نفسها مجدداً للإمساك بورقة ضغط قوية فى العملية السياسية السورية وفرض شروطها، وهذا تطور سيئ بالنسبة لروسيا التى كانت تمنى نفسها بالرحيل الأمريكى، وسيئ أيضاً لسوريا التى كانت تنتظر عودة الأكراد السوريين مجدداً إلى «الوطن الأم»،وهذا لن يتحقق بعد أن وعدتهم واشنطن بتوفير الحماية التى كانوا يأملونها وحذرتهم من أى تفاهمات مع دمشق.أما إيران فتدرك أنها المستهدفة بهذه الخطوة الأمريكية، إذ ربما تعيد واشنطن ربط رحيلها عن سوريا برحيل إيران، لكن الأهم هو أن تركيز الأمريكيين على إبقاء قواتهم فى «قاعدة التنف» ومنطقة الـ 55 كم التى تقع فى محيطها سيبقى «طريق بغداد- دمشق» مغلقاً، وسيعرقل تنفيذ «طريق طهران بيروت» ربما إلى أجل غير مسمى. وهذه كلها تطورات وتداعيات من شأنها إرباك حسابات جميع الأطراف، وفرض واقع جديد لتوازن القوى فى سوريا بعد مؤتمرى وارسو وسوتشى لم يكن ينتظره أو يأمله أى منهم.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك