رحل الرئيس الأميركي جورج بوش الأب إلى الدار الآخرة، بعد رحلة طويلة وكثيفة في دنيا الحياة. عسكري طيار مقاتل في الحرب العالمية الثانية. تقابل مع الموت مرات في بيرل هاربر ونجا بأعجوبة، كانت تلك تجربة مؤبدة في الروح والجسد والعقل. بدأت الحرب في أوروبا وسيقت إليها الولايات المتحدة بدهاء ونستون تشرشل، الذي جعل من هوس وجنون أدولف هتلر ناقوساً يقرع رؤوس الساسة الأميركيين، الذين يرون في الديمقراطية التوأم للحياة. الرئيس روزفلت تجمعت فيه روح القيادة وحسابات السياسة، وجرأة اتخاذ القرار. ونجح ونستون تشرشل في صناعة كيمياء تواصل معه، وظف وشائج العلاقة المتجذرة بين بريطانيا والولايات المتحدة لإقناعه بدخول الحرب إلى جانب الحلفاء. اليابان البعيدة عن أوروبا، والقريبة نسبياً من أميركا، دخلت الحرب مع تجمع المحور الذي تقوده ألمانيا، وصارت أميركا في حرب مع اليابان. جورج بوش مقاتلاً في الطيران الأميركي، ولج باب التاريخ من السماء المشتعلة.
بعد الانتصار في الحرب بسنوات، انتقل بوش إلى ميدان حرب أخرى، وهي «السياسة الباردة»، وإن سميت حرب بين الأقطاب الجديدة: الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه، والولايات المتحدة ومعها الكتلة الأوروبية الغربية. تولى قيادة وكالة المخابرات المركزية الأميركية، كهف التخطيط والتحليل ومعمل القرار التكتيكي والاستراتيجي. أُضيفت إلى عقل الرجل قوة أخرى.
صار المقاتل العسكري الطائر مقاتلاً سياسياً في ميدان فوق الأرض، وسط فوهات سرية وبعضها علني، أعطى وأخذ. وكالة الاستخبارات الأميركية هي غرفة العمليات الشاملة، ولها حواس متعددة في داخل البلاد وخارجها؛ خاصة في خضم الحرب الباردة.
في الحرب الباردة تقاتلت العقول، هناك من يحمل دائماً مسبحة المؤامرة؛ لكن السياسة تتداخل فيها المسبحة مع حبات «التخطيط» الساهر على مصلحة الوطن، بجلب الفوائد أو دفع الأضرار. ذلك هو ببساطة «ديالكتيك» الحياة التي يسبح في بحرها، ويمشي فوق أديمها البشر، سياسياً وأمنياً ومادياً.
انتقل بوش العسكري المقاتل، ورئيس كهف الأمن الأميركي، إلى موقع القرار السياسي الأميركي، نائباً لرئيس أميركي انتقل من أمام كاميرات السينما إلى رحاب القيادة السياسة للدولة الأقوى على وجه الأرض.
الرئيس رونالد ريغان الذي غير موازين الصراع السياسي والعسكري في العالم، أرهق الاتحاد السوفياتي غريم الغرب في معركة سباق التسلح والحرب الاقتصادية، وأعاد تقديم شخصية الزعامة الدولية لعالم يتغير. ترنح الاتحاد السوفياتي وعلى كاهله أثقال الآيديولوجيا والتآكل الاقتصادي والاحتقان السياسي. دخل جورج بوش خضماً آخر بمعدات يحملها في رأسه من الحرب العالمية الثانية، ومن كهف الأسرار الملغومة، وكالة المخابرات المركزية الأميركية. أخذ من البيت الأبيض كل الألوان، ما ظهر منها وما لم يظهر. لم يغادر البيت الأبيض الذي يسكنه العالم القريب والبعيد فوق ملفات. انتقل من غرفة نائب الرئيس إلى المكتب البيضاوي؛ حيث حمل معه كل ما كانه عبر سنين الزمان والرحاب الجغرافية.
عاد محارباً؛ لكن من موقع آخر، وفي ميدان آسيوي بعيد، في الكويت. صدام حسين غريمه هذه المرة، وليس فوهرر ألمانيا أو إمبراطور اليابان. رئيس دولة عربية يغزو دولة مجاورة مستقلة ذات سيادة، عضواً في الأمم المتحدة، لم تهاجمه أو تحشد قواتها على حدوده. رأى الرئيس المقاتل في الحرب العالمية الثانية أنه هذه المرة أمام العدوين الأقدمين: الألماني والياباني، ولكن في رجل واحد هو صدام حسين. هتلر اجتاح تشيكوسلوفاكيا، هادنه رئيس الوزراء البريطاني آرثر تشمبرلين، وصمت على قضم الفوهرر لأرض دولة صغيرة هي تشيكوسلوفاكيا؛ لكن النازي الذي ضم النمسا عبر استفتاء شعبي زاد نهمه، مستهزئاً بكل أوروبا، وتقدم إلى بولندا. مباشرة أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا الحرب عليه.
هل كانت الكويت لصدام هي بولندا لهتلر؟ حَمَلة مسبحة المؤامرة، رددوا أن صدام استُدرج إلى الكويت بمخطط أميركي. هذا الحديث يذكرني بسيدة عجوز لها بنت واحدة، كل بنات الجيران تزوجن ولم تبق إلا هي التي طالتها العنوسة، كلما سألتها واحدة من جيرانها: هل من «عريس» تقدم للآنسة؟ ترد الأم: «لا والله، مسكينة بنتي، معمول لها عمل»، يعني مسحورة كي يهرب منها الخُطاب، مؤامرة على البنت الطيبة. يبدو أن هتلر وصدام معمول لهما عمل (سحر) الأول بريطاني فرنسي، والثاني أميركي. دخول هتلر بولندا بعد قضم تشيكوسلوفاكيا وضم النمسا كان يعني قراره التهام كل أوروبا، فكان إعلان الحرب عليه من بريطانيا وفرنسا. دخول صدام غازياً للكويت يعني أنه سيلتهم كل الخليج.
هناك في البيت الأبيض كان الرجل المقاتل والأمني والرئيس، وقبله النائب لريغان الجنرال السياسي للحرب الباردة، بكل ما في رأسه من التاريخ وخبرة المعارك المختلفة، اتخذ قرار الحرب على صدام لإخراجه من الكويت، قبل أن يتمدد إلى كل دول الخليج. دُحر صدام من الكويت، ولكنه بقي على رأس العراق وصدره. لماذا لم يُطارَد إلى بغداد وإنهاء نظامه؟ كان المراد أن يبقى فزاعة لإيران. خرج جورج بوش الأب من البيت الأبيض بعد خسارته للانتخابات أمام بيل كلينتون؛ لكنه عاد مرة أخرى إلى المكتب البيضاوي في شخص ابنه جورج بوش الثاني.
أعادت أحداث سبتمبر (أيلول) فتح ملف لم يُغلق سوى نصفه. الهجوم بطائرات مدنية مخطوفة على أبراج نيويورك وغيرها، قدم نموذجاً غير مسبوق للعمل الإرهابي. هزَّ ذاك الحدث العالم، وغير كثيراً في العقل والقراءة الأميركية لخرائط الأمن والحسابات العسكرية، وقرر جورج بوش الثاني الحرب الشاملة على أفغانستان؛ حيث قيادة «القاعدة»، العقل الذي أرسل الإرهابيين إلى أميركا.
الظاهرة الإرهابية المرعبة الجديدة، أعادت قراءة مقاييس رسم كل خرائط دول العالم. صدمة نيويورك أشبه بالقيامة الصغرى. كان السؤال في دوائر معامل التفكير السياسي وصنع القرار في واشنطن: هل سيلجأ صدام إلى استخدام أسلوب إرهابي مبتكر للانتقام من الولايات المتحدة، التي أخرجته مهزوماً من الكويت، يتجاوز ما قام به بن لادن؟
عاش العالم تجارب عدة مع الإرهاب، من خطف للطائرات وتفجيرات واغتيالات؛ لكن ما شهدته أبراج نيويورك لم يخطر ببال بشر. الخطاب الإعلامي السياسي العراقي المتوعد والمهدد لأميركا، جعل العراق هدف الضربة الاستباقية. العقول تورث مثلما الأحداث والسياسات. جورج بوش الأول في الكويت والثاني في العراق، والهدف واحد، صدام حسين.
نقلا عن الشرق الأوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك