بقلم - سوسن الأبطح
تحررت أخيراً المسلسلات اللبنانية من قوقعتها ولم تعد حبيسة قصص الحب ومآسي الخيانات الزوجية، وفخاخ الجشع للثروة. خرجت الحكايات أيضاً من كبوة الدفاع عن الانحراف السلوكي وتسامحها مع أهل الغدر الذين يكافأون بدل أن يحاكموا، ويحالفهم الحظ بدل أن تعاندهم الظروف. عادت الدراما إلى رشدها، وبعض من إنسانيتها، ودورها كراصد للظلم والفساد. بمقدورك أن تعترض على بعض الهفوات، على بطء الإيقاع أحياناً، وضعف مؤدين لم يكن اختيارهم موفقاً، لكنك لا بد أن تلحظ أن الحكايات بدأت تمس ضمير الناس وتلامس مشكلاتهم اليومية. اشتعل خيال الكتّاب بعودة إلى الحرب الأهلية اللبنانية بكل ما تركته خلفها من مآسٍ نسي البعض أنها لا تزال تعشش في نفوسهم، بدخول بيوت زعماء سياسيين لتفضح نتنهم العائلي، وجشعهم للسلطة ونفاقهم الذي يمارسونه على أنفسهم قبل أن يدسّوه سماً في خطاباتهم.كان المتفرج بحاجة إلى جرعة أمل بأن المبادئ لها مكانها وأن المختلسين والمهربين والظالمين يخضعون للحساب ولا ينتصرون بالضرورة. تغلب مسلسل «الهيبة» على ميله المزعج للدفاع عن عصابات التهريب الحدودية التي تناور قوى الأمن وتنتصر ويتوج قادتها «قبضايات» يستحقون احترام من حولهم. أنقذ المسلسل نفسه في الجزء الثالث حين أدخل رجلاً سياسياً مرموقاً وفاسداً إلى صلب القصة له عشيقة إعلامية يصنع منها نجمة، لكنها تقع في غرام جبل، وتجد فيه من الشهامة ما لا تعثر عليه في الصورة اللماعة للأول. الصراع لا يزال دائراً بين الرجلين لكن السياسي الكبير يجد نفسه منكسراً، ضعيفاً، خانعاً، يعمل في الظل للانتقام واقعاً تحت ضغط الخوف من انكشاف فضائحه. وجبل (تيم حسن) الناقم على سلطة الدولة بدأ يراجع نفسه ويسأل والدته (منى واصف) «ما الذي جنيناه من كل ما فعلناه؟ خلينا نمشي على الأصول». القانون حاضر، رغم أن المنحرفين كثر.الخلافات داخل البيت السياسي الواحد في «خمسة ونص» هي بين تيارين أحدهما يميل إلى الخير تمثله نادين نسيب نجيم زوجة الابن التي دخلت جديداً إلى العائلة، في مواجهة نيات الشر عند زوجها كما زوجة أبيه. الكاتبة إيمان سعيد برعت رغم بعض السذاجة في بداية المسلسل، في استلهام الواقع اللبناني، وجعلت الحقد يدمّر العائلة السياسية فيما برزت زوجة الابن، الطبيبة الآتية بأفكار المجتمع المدني اللبناني كبديل بعد أن تمكنت من الوصول إلى النيابة عِوضَ زوجها. المسلسل يتحدث عن فساد الأدوية، وسموم النفايات المتراكمة التي تفتك بصحة الناس، من خلال النائبة الطبيبة الثائرة.الرغبة في فضح الانحراف السياسي المزمن في لبنان، الذي بات موضوعاً محبباً للمسلسلات، يأتي متناغماً مع ميل شعبي متزايد للنقد والكشف. ينتبه الكتّاب فجأة أنهم في مجتمع، هو من الغنى بالأزمات والمحن، ما يجعلهم محتاجين فقط إلى أن يفتحوا عيونهم ويشنفوا آذانهم ليلتقطوا عجائب ما يمكن أن يروى، وهذا ما يبدو جلياً في مسلسلي «أسود» و«انتي مين». الكاتبة كلوديا مارشيليان في المسلسل الأول دخلت في عالم الغرائبية لكنها بقيت ملتصقة بالواقع. الشخصية المحورية التي يلعبها باسم مغنية بإتقان، هي لشاب تعرض لتحرش جنسي وهو طفل بتواطؤ من والده وذهبت الأم ضحية. «أسود» الذي كبر ويحمل المسلسل اسمه، قلبه ممتلئ بالحقد على المرأة التي دمّرت حياته يطاردها وعائلتها بنَفَس طويل وخطط للانتقام مثيرة ومشوقة. هو بقدر ما يريد أن يثأر يود ألا تصيب شروره أبرياء لا ذنب لهم. هنا تدخل الكاتبة في «متلازمة استوكهولم» حيث تبدأ الضحية ابنة المرأة المتحرشة التي يختطفها أسود بالتعاطف معه لتجد القصة انعطافات غير متوقعة. استغلال الأطفال جنسياً، والأمراض النفسية التي تتفشى في المجتمع اللبناني، والبحث عن الحب بأي ثمن، والفقر الذي يجر إلى الرذيلة، والغنى الذي لا يجلب السعادة، والتضحية بكل شيء من أجل المال... كلها مجتمعة في قصة واحدة.القضايا المركبة باتت سمة لذيذة في قصص الكتّاب اللبنانيين، بعد أن افتقروا طويلاً للعمق النابع من الهوية الذاتية، وأغرتهم الحبكات المكسيكية والتركية، واقتبسوا القصص الغربية.الكاتبة والممثلة كارين رزق الله تابت أخيراً عن نصوص تعطيها دور المعشوقة التي لا يُردّ سحرها. لبست ثياب المرأة التي تكدّ طوال نهارها لتلتقط قوتها، تقود سيارة لا تعرف متى تتعطل، تعيش في بيت متواضع مع أب سكير كان مقاتلاً في إحدى الميليشيات في أثناء الحرب اللبنانية، بعد أن فقدت أمها المقاتلة هي الأخرى. تكشف الحلقات عن أن الأم لا تزال على قيد الحياة. وأنها إضافة إلى هذه البنت، لها ابن ربته ولم تلده، وآخر ولدته وتركته أمام أحد المياتم لتتبناه عائلة ألمانية. ذيول الحرب تزن قاسية على عائلتين في المسلسل وثالثة لم يبق لها سوى طرق ملتوية لتأمين حتى التيار الكهربائي في بيتها.تفجّرت المواضع في نصوص الكتّاب فجأة، كأنما وقعوا أخيراً على مغارة الكنز المفقود، غير أن النقد بقي واقفاً حيث هو، ثمة من لا يزال يمدح دون توقف، ومن لا يرى سوى العورات دون مبرر، ومن يلاحق أخبار الملابس، ومن يهتم بأخبار النجوم، في قصور محزن أمام إنجازات في السيناريوهات تستحق أن توضع تحت مجهر التشريح الدقيق. العمل الحر، الجريء يحتاج إلى رصد يتناسب ومستوى ما يقدَّم. ومن قال إن التلفزيون قد مات، لا بد أنه تأكد أن المسلسلات تنتعش من جديد، وأن الناس يعشقون، كما الأطفال الصغار مَن يقص عليهم الحكايا، شرط أن تحترم عقولهم، وتمس ضمائرهم.
أرسل تعليقك