آخر تحديث GMT 08:03:06
اليمن اليوم-

جوسلين مرّت من هنا

اليمن اليوم-

جوسلين مرّت من هنا

بقلم - سوسن الأبطح

حين سئلت المخرجة اللبنانية الراحلة، منذ أيام، جوسلين صعب، لماذا ذهبت إلى مصر وصورت فيلمها «دنيا» عن ختان البنات، وأدخلت نفسها في دوامة صدامات، حتى وجدت نفسها وحيدة لم يدافع عنها أحد حينها، قالت: أنا عربية وأعتبر هذه القضية جزءاً مني، وكل هذه البلاد هي بلادي. و«دنيا» ليس الفيلم الوحيد الذي صورته صعب في مصر وجلبت لنفسها المتاعب والعزلة، غير آسفة أو نادمة. 

فيلمها «مدينة الموتى» تسبب لها بمشكلات كثيرة هو الآخر، كانت بغنى عنها، ولم تتب. هذا الصنف من المخرجين اللبنانيين الملتزمين، الذين اعتبروا كشف بشاعة الحروب قضيتهم، وفضح ضيق الأفق غايتهم، ورد الظلم مهمتهم، بقيت الحرب الأهلية اللبنانية محور أفلامهم، وعذابات الشعب الفلسطيني هي الامتداد الذي وجدوا فيه استكمالاً لفكرتهم. كان الفيلم الروائي الواحد، يكلفهم سنوات من العمل، وبحثاً مضنياً عن التمويل، ولولا أنهم تعلقوا بحبل الأفلام الوثائقية، التي كانت أسهل وأقل تكلفة، لربما كانت ذوت مواهبهم بدل أن تنضج.

من مارون بغدادي الذي قتلته الحرب في عزه من دون قصد، حين هوى في حفرة مصعد لم يصل إلى محطته في بيروت الغارقة في فوضاها، إلى جان شمعون الذي بقي هو الآخر مهجوساً بآلام الصراعات ومتاهات العنف مع شريكة عمره مي المصري ونالا جوائز عالمية، إلى برهان علوية الذي دشن مسيرته بفيلم «كفر قاسم» النازف الرهيب في إنسانيته. ثم رندة الشهال التي لم تغادر فكرة مقارعة الظلم والحرب في أي من أفلامها. 

من الغريب أن كل هؤلاء أتيح لهم العيش في فرنسا، وكان يمكن أن يديروا ظهرهم، ويذهبوا للتفكير في مواضيع أكثر مرحاً، ولم يفعلوا، لا بل اختاروا العودة الطوعية، وإبقاء الحبل السري الذي يصلهم بقضاياهم هو النبع الذي منه يستلهمون أفلامهم.

إلى هذا الجيل المؤسس تنتمي جوسلين صعب، وتتميز عنهم بأنها، ذهبت بحسها الصحافي تبحث عن المظلومين، كما في فيتنام، وسّعت دائرة اهتمامها، لكنها كانت تعرف، دائماً، ما تريد. تنكر أن تكون سينمائية هدفها الانتصار للمرأة، مع أنها كذلك، تقول «أنا لست نسوية أنا إنسانية». مع ذلك قبل وفاتها كانت الشخصية التي تشغلها آسيا داغر، لا لأنها ابتعدت عن ثيمة الحروب، بل لأنها اكتشفت أنها هي نفسها كامرأة تخوض بشجاعة في المواضيع التي تشغلها بصرف النظر عن رأي الآخرين، تتعرض لحرب قاسية، من صنف لم تكن قد لحظته من قبل.

كانت تحاول توسيع دائرة الحرية التي تتحرك بها بالتسلح بسيرة داغر التي جاءت مصر أمية، ومع ذلك استطاعت أن تؤسس أكبر شركة إنتاج، وتقنع صاحب مصرف بدعمها، واكتشفت نجوماً في السينما المصرية وقدمت مخرجين من الصف الأول.

الفرق بين جوسلين صعب والآخرين، أنها بدل أن تحدّ من ساحات المواجهة، كانت تفتحها الواحدة تلو الأخرى، لا بحس المقاتلة، إنما برغبة المرأة الساعية إلى حياة لا تقبل الاختزال أو أدنى تنازل.

كانت ترى أن سيرة آسيا داغر المرأة الذكية، الآتية من تنورين الوادعة في لبنان إلى صخب القاهرة وما استطاعت أن تنجزه، بمثابة درع تحتمي به، بعدما تعرضت له من تضييق ومواجهات.

كانت «حرباً ضد تفكيري الشخصي، إنها تدمر، تكسر، ولو لفترة معينة». كانت موقنة بأن النساء العربيات يفقدن حريتهن بدل أن يعززنها. «وإذا كنت أبحث عن امرأة عاشت في عشرينات القرن الماضي وتجرأت، فهذا لأنني أحاول أن استقوي بها وأقلدها وأتجرأ كما تجرأت».

حتى جوسلين صعب الرائدة اليسارية، التي عانقت فلسطين والعروبة، وقطعت الصحراء لتتابع أخبار الثوار وتقابل معمر القذافي، وغطت حرب أكتوبر 1973، ورافقت ياسر عرفات في خروجه من بيروت وهي تهرّب له سلاحه الشخصي في بذلتها العسكرية، وجدت نفسها في النهاية، تحت وطأة الواقع العربي الذي يتقزم، محشورة في قضية الدفاع عن نفسها كامرأة مخرجة يحق لها أن تتناول الموضوع الذي تشاء، دون أن تخضع للتهديد.

لم تضيع مخرجة «غزل البنات» البوصلة يوماً، لم تكن هذه معضلتها، فهي من العمق والوعي، بحيث تعرف أنها سليلة جدٍ مسحور بالتاريخ وآثاره، وأب مغامر في تسفاره وطموحه، وتنتمي الى منطقة ممتدة وشاسعة، وثقافة متجذرة لا تحد نفسها بسدود رسمت لها، لكن معاناتها الذاتية في السنوات الأخيرة جعلتها تنظر الى الأولويات الفنية من زوايا أخرى مختلفة.

لم تندم أبداً جوسلين صعب، على المواجهة الحامية التي خاضتها من أجل فيلم «دنيا» الذي سمح بعرضه بعد ذلك، بل تعتبر ما عاشته جزءاً من معركة خاضتها النساء في مصر لمنع الختّان، وهي سعيدة بمساهمتها وبانتصار قضيتها، رغم الثمن الباهظ الذي دفعته من صحتها.

ربما أن جوسلين صعب لم تترك لنا الأفلام الأكثر عبقرية، لكنها بالتأكيد قطعت الطريق الأشد وعورة لامرأة صحافية ومن ثم سينمائية من جيلها، وسجلت لحظات مفصلية من تاريخنا الحديث بكاميرا لها حساسية شعرية مرهفة وإرادة فولاذية لا تلين. وإن كان من مخرجات لبنانيات اليوم، يصلن ويجلن بعدساتهن حيث أردن، ويخضن ما بدا لهن من قصص من دون أن يحاسبهن أحد، فلأن جوسلين صعب مرت من هنا.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جوسلين مرّت من هنا جوسلين مرّت من هنا



GMT 11:27 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

انتقد ترمب ثم سر على خطاه!

GMT 11:22 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

نظام كورونا العالمي الجديد

GMT 11:20 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

وداعاً محمود رضا طاقة البهجة الراقصة

GMT 11:19 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

يريد أن يكون متواضعاً

GMT 11:17 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

٣ ملامح فى ليبيا!
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 06:28 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش تفوز بولاية رابعة

GMT 01:35 2018 الخميس ,07 حزيران / يونيو

محمد بن زايد يطلق حزمة اقتصادية بـ 50 بليون درهم

GMT 03:07 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

منة فضالي تؤكد أن العمل مع الفنانة بوسي ممتع ويغمره البهجة

GMT 01:45 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

غير الناطقين بالإنكليزية يتفوقون في برنامج التقييم الوطني

GMT 22:50 2018 السبت ,20 تشرين الأول / أكتوبر

مدير باريس للأساتذة يحث فيدرر على المشاركة في البطولة

GMT 21:49 2016 الأحد ,27 آذار/ مارس

أوملت البطاطا

GMT 21:58 2017 الجمعة ,02 حزيران / يونيو

غضب نسائي يطارد أحمد فهمي بسبب خيانة نيللي كريم

GMT 00:46 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

علي ربيع يكشف عن فيلم جديد يجمعه بنجم "مسرح مصر"

GMT 07:20 2018 الإثنين ,23 إبريل / نيسان

"الفراولة" أحدث موضة في قصات الشعر لعام 2018

GMT 03:20 2016 الأربعاء ,14 كانون الأول / ديسمبر

توست مقلي بالبيض

GMT 21:00 2018 السبت ,14 تموز / يوليو

8 جامعات إماراتية ضمن أفضل 40 جامعة عربية
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen