حين سئلت المخرجة اللبنانية الراحلة، منذ أيام، جوسلين صعب، لماذا ذهبت إلى مصر وصورت فيلمها «دنيا» عن ختان البنات، وأدخلت نفسها في دوامة صدامات، حتى وجدت نفسها وحيدة لم يدافع عنها أحد حينها، قالت: أنا عربية وأعتبر هذه القضية جزءاً مني، وكل هذه البلاد هي بلادي. و«دنيا» ليس الفيلم الوحيد الذي صورته صعب في مصر وجلبت لنفسها المتاعب والعزلة، غير آسفة أو نادمة.
فيلمها «مدينة الموتى» تسبب لها بمشكلات كثيرة هو الآخر، كانت بغنى عنها، ولم تتب. هذا الصنف من المخرجين اللبنانيين الملتزمين، الذين اعتبروا كشف بشاعة الحروب قضيتهم، وفضح ضيق الأفق غايتهم، ورد الظلم مهمتهم، بقيت الحرب الأهلية اللبنانية محور أفلامهم، وعذابات الشعب الفلسطيني هي الامتداد الذي وجدوا فيه استكمالاً لفكرتهم. كان الفيلم الروائي الواحد، يكلفهم سنوات من العمل، وبحثاً مضنياً عن التمويل، ولولا أنهم تعلقوا بحبل الأفلام الوثائقية، التي كانت أسهل وأقل تكلفة، لربما كانت ذوت مواهبهم بدل أن تنضج.
من مارون بغدادي الذي قتلته الحرب في عزه من دون قصد، حين هوى في حفرة مصعد لم يصل إلى محطته في بيروت الغارقة في فوضاها، إلى جان شمعون الذي بقي هو الآخر مهجوساً بآلام الصراعات ومتاهات العنف مع شريكة عمره مي المصري ونالا جوائز عالمية، إلى برهان علوية الذي دشن مسيرته بفيلم «كفر قاسم» النازف الرهيب في إنسانيته. ثم رندة الشهال التي لم تغادر فكرة مقارعة الظلم والحرب في أي من أفلامها.
من الغريب أن كل هؤلاء أتيح لهم العيش في فرنسا، وكان يمكن أن يديروا ظهرهم، ويذهبوا للتفكير في مواضيع أكثر مرحاً، ولم يفعلوا، لا بل اختاروا العودة الطوعية، وإبقاء الحبل السري الذي يصلهم بقضاياهم هو النبع الذي منه يستلهمون أفلامهم.
إلى هذا الجيل المؤسس تنتمي جوسلين صعب، وتتميز عنهم بأنها، ذهبت بحسها الصحافي تبحث عن المظلومين، كما في فيتنام، وسّعت دائرة اهتمامها، لكنها كانت تعرف، دائماً، ما تريد. تنكر أن تكون سينمائية هدفها الانتصار للمرأة، مع أنها كذلك، تقول «أنا لست نسوية أنا إنسانية». مع ذلك قبل وفاتها كانت الشخصية التي تشغلها آسيا داغر، لا لأنها ابتعدت عن ثيمة الحروب، بل لأنها اكتشفت أنها هي نفسها كامرأة تخوض بشجاعة في المواضيع التي تشغلها بصرف النظر عن رأي الآخرين، تتعرض لحرب قاسية، من صنف لم تكن قد لحظته من قبل.
كانت تحاول توسيع دائرة الحرية التي تتحرك بها بالتسلح بسيرة داغر التي جاءت مصر أمية، ومع ذلك استطاعت أن تؤسس أكبر شركة إنتاج، وتقنع صاحب مصرف بدعمها، واكتشفت نجوماً في السينما المصرية وقدمت مخرجين من الصف الأول.
الفرق بين جوسلين صعب والآخرين، أنها بدل أن تحدّ من ساحات المواجهة، كانت تفتحها الواحدة تلو الأخرى، لا بحس المقاتلة، إنما برغبة المرأة الساعية إلى حياة لا تقبل الاختزال أو أدنى تنازل.
كانت ترى أن سيرة آسيا داغر المرأة الذكية، الآتية من تنورين الوادعة في لبنان إلى صخب القاهرة وما استطاعت أن تنجزه، بمثابة درع تحتمي به، بعدما تعرضت له من تضييق ومواجهات.
كانت «حرباً ضد تفكيري الشخصي، إنها تدمر، تكسر، ولو لفترة معينة». كانت موقنة بأن النساء العربيات يفقدن حريتهن بدل أن يعززنها. «وإذا كنت أبحث عن امرأة عاشت في عشرينات القرن الماضي وتجرأت، فهذا لأنني أحاول أن استقوي بها وأقلدها وأتجرأ كما تجرأت».
حتى جوسلين صعب الرائدة اليسارية، التي عانقت فلسطين والعروبة، وقطعت الصحراء لتتابع أخبار الثوار وتقابل معمر القذافي، وغطت حرب أكتوبر 1973، ورافقت ياسر عرفات في خروجه من بيروت وهي تهرّب له سلاحه الشخصي في بذلتها العسكرية، وجدت نفسها في النهاية، تحت وطأة الواقع العربي الذي يتقزم، محشورة في قضية الدفاع عن نفسها كامرأة مخرجة يحق لها أن تتناول الموضوع الذي تشاء، دون أن تخضع للتهديد.
لم تضيع مخرجة «غزل البنات» البوصلة يوماً، لم تكن هذه معضلتها، فهي من العمق والوعي، بحيث تعرف أنها سليلة جدٍ مسحور بالتاريخ وآثاره، وأب مغامر في تسفاره وطموحه، وتنتمي الى منطقة ممتدة وشاسعة، وثقافة متجذرة لا تحد نفسها بسدود رسمت لها، لكن معاناتها الذاتية في السنوات الأخيرة جعلتها تنظر الى الأولويات الفنية من زوايا أخرى مختلفة.
لم تندم أبداً جوسلين صعب، على المواجهة الحامية التي خاضتها من أجل فيلم «دنيا» الذي سمح بعرضه بعد ذلك، بل تعتبر ما عاشته جزءاً من معركة خاضتها النساء في مصر لمنع الختّان، وهي سعيدة بمساهمتها وبانتصار قضيتها، رغم الثمن الباهظ الذي دفعته من صحتها.
ربما أن جوسلين صعب لم تترك لنا الأفلام الأكثر عبقرية، لكنها بالتأكيد قطعت الطريق الأشد وعورة لامرأة صحافية ومن ثم سينمائية من جيلها، وسجلت لحظات مفصلية من تاريخنا الحديث بكاميرا لها حساسية شعرية مرهفة وإرادة فولاذية لا تلين. وإن كان من مخرجات لبنانيات اليوم، يصلن ويجلن بعدساتهن حيث أردن، ويخضن ما بدا لهن من قصص من دون أن يحاسبهن أحد، فلأن جوسلين صعب مرت من هنا.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك