بقلم - سوسن الأبطح
من حسن حظ أمين نخلة أنه وُلد قبل غزو أكياس النايلون والعبوات البلاستيكية، والانبعاثات القاتلة. من الصعب تخيل هذا الأديب البديع يكتب رائعته «المفكرة الريفية» التي اعتُبرت مفصلاً في النثر العربي الحديث في بيئة تتطاير فيها السموم وتتقاذف الرياح الأوراق ومخلفات البشر المقززة.كتب الرجل عن التوازن البيئي ولم يكن قد سمع به أو عرف عنه. تحدث عن دروب الريف التي «تنهض من وهدة إلى ربوة، وتدور خلف شجرة، وتعرّج على عين ماء وتتوقف في ظل حائط، وتنطرح على باب بيت – تمشي على هواها. هي على عكس دروب المدينة التي تمشي في خط مستقيم». وكانت الكسارات أيام نخلة، صاحب الفتوحات الأسلوبية، لم تأكل سحر الجبال بعد، والمقالع لم تنشر الصخر وتبتلع الشجر. قارَنَ بين دروب الريف الملتوية المستظلة بالخضرة، وما يسير عليه أهل المدينة من سواد فاحم. ولو بقي الرجل بيننا لَعَرف أن هذا القاتم زحف إلى كل زاوية ولم يبق للبشر سوى الحسرة. وتقرير الأمم المتحدة الكارثي حول البيئة الذي أُعلن عنه مؤخراً، رغم أهميته، يكاد يقول عن العالم بالأرقام ما نعرفه ونلمسه في لبنان حين نطل على البحر أو نقترب من نهر أو حتى نسير في الطريق. وبالتالي فهو لا يفعل سوى أن يؤكد المؤكد بعلمية هذه المرة، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تردد.دول العالم شاركت في الدراسة، ومئات الخبراء قدموا آلاف الأبحاث، ليصلوا إلى نتيجة واحدة هي أن الجشع والتغول السلوكي البشري يقضي بوتيرة سريعة، وغير مسبوقة، على الكوكب وكائناته، وأن مليون نوع نباتي وحيواني ذاهبة إلى الانقراض. وإذا كان من الصعب تعداد الانحرافات البشرية التي تقود إلى هذه التهلكة ومنها المصانع والمحارق وقطع الأشجار وتلويث التربة واستخدام الكيميائيات بلا رحمة، فإن البلاستيكيات وحدها التي أصبحت إدماناً هائلاً في صناعة الأكواب كما السيارات والصواريخ وحتى الجوالات، يمكنها أن تطمر الأرض وتشكل كارثة تقضي على ثروة البحر.كان الخبر أشبه بنكتة حين كشفت مجلة «ساينس ريبورتس» العام الماضي، عما سمّته قارة ثامنة تعادل مساحتها ثلاثة أضعاف فرنسا، من البلاستيك، تعوم في المياه الإقليمية للمحيط الهادي، وكذلك الهندي والأطلسي. لكن الأسوأ هي تلك الأكوام من النفايات البلاستيكية بين هاواي وكاليفورنيا. الصور الآتية من هناك، هي من البشاعة بحيث إنها ترعب بالفعل وتبعث على الهلع. بمقدور البلاستيك لكثرة ما نستخدمه ونستشرس في جعله وسيلتنا إلى كل شيء، أن يطمرنا. ثلاثة ملايين طن من البلاستيك، ينتج الإنسان كل سنة، لا يعاد تدوير إلا القليل منها. كمية كفيلة بأن تحيل التربة إلى سمّ والبحار إلى مقابر لكائناتها، التي إما أن تموت وهي تبتلعها، وإما تقضي بسببها حين تسد عنها أسباب الطعام. ثمة أسئلة كثيرة عن سبب إصرار شركات المشروبات الغازية على الاستمرار في استخدام العبوات البلاستيكية والمعدنية، ورفضها العودة إلى الزجاج الذي كان بيئياً وصحياً. ثلاثة ملايين عبوة بلاستيكية، هو ما تخلّفه شركة واحدة فقط، هي الأشهر والأكبر. ومن المهازل أن هذه الشركة نفسها التي باتت مدانة وملاحَقة من الجمعيات البيئية تتبرع بمبالغ خيالية للأبحاث المتعلقة بالصحة والتوازن البيئي.وما بين النفاق الممجوج، واللامبالاة المستفزة، من كبار المصنعين، العودة إلى الوراء ليست متاحة. الوعي لا يزال قاصراً، الناشطون البيئيون أشبه بمخلوقات هامشية تسعى إلى ما لا يفهمه الآخرون. تحتاج كل عبوة بلاستيكية نرمي بها في مهملاتنا إلى 500 سنة كي تبدأ بالتحلل، لأن البكتيريا لا تؤثر في هذا النوع من المصنوعات الشديدة المناعة. واحتسبْ كم من العبوات ترمي في الأسبوع، وعمِّم على من حولك.مئات ملايين الأطنان تكدست وباتت تشاركنا الحياة ببشاعتها وانبعاثاتها تحت الشمس الحارة. لو تخيلت فقط عدد حفاضات الأطفال التي رُميت منذ عُرف هذا الاختراع، وعلمت أنها 187 مليار حفاضة متسخة في العام الواحد، لأدركت مدى خطورة ما نتحدث عنه. بدأت إيطاليا بتدوير جزء من هذه المرميات الصعبة التدوير، في مصانع خاصة، منها ما يتحول إلى تربة صناعية للزراعة، وغيرها يعاد صياغته في شكل أغطية للعبوات. لكن هل حقاً ثمة طريقة آمنة لإعادة استخدام هذا النوع من القطن والنايلون؟إنقاذ الطبيعة المنتهكة يحتاج، إضافة إلى العبقريات العلمية، إلى عدم الوقوع في أفخاخ جديدة أشد خطراً، ففهم الأفراد أن الاسترسال في الاستهلاك لمجرد أننا نمتلك الثمن هو سلوك يفتقر إلى أدنى المعايير الأخلاقية وأن ما يرميه مستهتر على شاطئ في إيطاليا قد يقتل سلحفاة في البحر الليبي، وأن ما يسكبه لبنان من مجارير وقمامة في البحر يجب أن يعاقَب عليه من كل دول البحر المتوسط.وكما اكتشف أهل البسيطة في سبعينات القرن الماضي أن عليهم الاتفاق حول قانون للبحار، وأنشأوا لهذا الغرض محكمة تحل النزاعات حول الحدود البحرية وثرواتها، لا بد سيأتي يوم يُنظر فيه إلى أن المياه الإقليمية ليست مشاعاً لأصحابها يقذفون إليها بنفاياتهم التي تجرفها حركة المياه في كل اتجاه. وأن الهواء ملكية إنسانية عامة يعاقَب دولياً من يعتدي على صفائها.تبدو صرخة الأمم المتحدة كأنها لم تُسمع. كثيرة الدول التي لا تريد أن تهتم بالأرقام، والحكومات التي تؤجّل النظر في الحلول. فارتكاب المعاصي البيئية أسهل كثيراً من التوبة عنها. الحلول الصحية مكلفة والأزمات المالية في العالم متلاحقة. وآخر الهموم أن يشرب فقراء القوم المياه الملوثة أو يأكلوا الخضراوات المسرطنة أو يتنشقوا هواء يورّثهم الموت. الصورة قاتمة، غير أن الأمل قائم. بمقدور السياسات الضيقة والنفوس المريضة أن تقسم الأرض وتغلق الحدود وتسمي الدول والشعوب وترفع الحواجز، وتنتهك ما تشاء، إلا أن هؤلاء أنفسهم سيدركون قريباً جداً، أن ما يفرقه الإنسان بطمعه وجشعه، يجمعه الكوكب بمصير واحد
أرسل تعليقك