بقلم : د. حسن أبوطالب
فى أبريل الماضى نشر موقع كارنيجى للأبحاث والدراسات تقريراً تضمن إجابات بعض الباحثين الأتراك العاملين فى مراكز بحوث أمريكية وباحثين سوريين، عن سؤال حول هل تضم تركيا الأراضى السورية التى احتلتها نهاية العام 2017، ومطلع العام 2018، فى عفرين السورية، إضافة إلى المثلث الواقع بين جرابلس وإعزاز وإدلب؟ وجاءت الإجابات فى مجملها مُحملة بقدر من الالتباس، فى ظاهرها نفى فى أن تكون الدولة التركية بحاجة إلى وجود طويل الأمد فى تلك المناطق السورية لاعتبارات دولية وإقليمية، وأيضاً للتكلفة العالية التى يتطلبها هذا الاحتلال، وأن كل ما يهدف إليه «أردوغان» هو أن يسهم فى تشكيل مصير سوريا من خلال بناء قوة ضغط على الرئيس بشار الأسد، فضلاً عن ضمان ألا تشكل تلك المناطق تهديداً لتركيا ذاتها. ومشيرين إلى أن عمليتى درع الفرات واحتلال عفرين كانتا بضوء أخضر من كل من روسيا وأمريكا، وأن هذا الاحتلال لا علاقة له بسياسة العثمانية الجديدة، لأن جوهرها حسب تفسيراتهم هو الامتداد السلمى ثقافياً واقتصادياً.
أما فى جوهر التحليل فقد اعترف بعض هؤلاء الباحثين الأتراك بأن هناك بالفعل عمليات تتريك ممنهجة لتلك المناطق السورية المحتلة، فكل المسئولين الذين يديرون الإدارة المحلية فى عفرين وجرابلس وإعزاز يتم تعيينهم من خلال محافظى ولايتى عينتاب وهاتاى التركيتين المجاورتين للمناطق السورية المحتلة، وكأن المناطق السورية المحتلة جزء أصيل فى الدولة التركية. كما تم إنشاء مدارس تركية عديدة تقوم بتدريس المنهج التركى باللغة التركية، والذى يُدرس أيضاً فى المدارس السورية فى تلك المناطق، كما تدير وزارة الصحة التركية المستشفيات فى تلك المناطق ويرفع عليها العلم التركى وليس العلم السورى. والاتصالات تتبع الشركات التركية التى انتشرت فروعها فى كل بقعة. أما الأمن فهو من اختصاص الجيش التركى ويخضع المسلحون الذين يشكلون ما يعرف بالجيش السورى الحر والتابعون لما يعرف بالائتلاف السورى المعارض، وجماعات مسلحة أخرى ترفع شعار معارضة النظام السورى، لقواعد الاشتباك التى يقرها الجيش التركى وهم يشكلون جيشاً تحت إمرة «أنقرة» يُوظف فى تهديد المناطق السورية ذات الغالبية الكردية فى شرق نهر الفرات. مظاهر التتريك على النحو السابق والتى تؤكدها المصادر الكردية السورية تقترب حسب إجابة إحدى الباحثات من نموذج شمال قبرص الذى يحتله الجيش التركى منذ العام 1974 وحتى الآن. ورغم تأكيد بعض هؤلاء الباحثين أن الجيش التركى ما زال يؤمن بأفكار «أتاتورك»، مؤسس الجمهورية التركية، ومن بينها أن يكون الجيش التركى قوة سلام مع الجيران وحماية للدولة التركية، ومن ثم فإنه لا يحتل أراضى الغير ولديه حساسية فى البقاء كقوة احتلال لفترات طويلة، لكنهم لم يحاولوا شرح هذا البقاء الطويل فى الشمال القبرصى الذى يمتد أربعة عقود ونصف، وليس هناك أى مؤشر على إنهائه قريباً، كما أن منهم من فسر احتلال شمال سوريا باعتبارات حماية الأمن القومى التركى من تهديدات الانفصال الكردى، وهى نفسها التى يدعيها الرئيس «أردوغان» كمبرر لاحتلال مناطق شاسعة جديدة من الشمال السورى شرق الفرات تمتد ما بين منبج وتل أبيض ورأس العين، وهى مدن تبعد عن بعضها نحو 200 كيلومتر.
إجابات الباحثين الأتراك وحتى من يوصف منهم بأنه معارض للرئيس «أردوغان» تؤكد أن أية خلافات داخلية تركية لا تمتد إلى ما يرونه تصحيحاً للتاريخ واستعادة الدولة التركية للأراضى التى سلبت منها وفقاً لمعاهدة 1923 التى شكلت حدود الدولة التركية الحديثة. وهو ما يشكل توافقاً بين كافة المكونات السياسية التركية، ويعتمد عليه «أردوغان» فى تمرير مغامراته العسكرية فى سوريا وبقائه الطويل فيها.
لا يخفى الرئيس التركى «أردوغان» أطماعه فى الأراضى السورية، وفى العلن يصر على أن جيشه يحارب الإرهاب، وفى ذلك يخلط عمداً ما بين تنظيم «داعش» وحزب العمال الكردستانى التركى الموصوم إرهابياً وفق القوانين التركية، والذى يشتبك مع الجيش التركى منذ العام 1983، ولكنه الآن أضعف بكثير من أن يشكل تهديداً حقيقياً للدولة التركية. كما يخلط «أردوغان» عمداً بين هذا الحزب الكردى التركى وبين قوات سوريا الديمقراطية التى تضم فى عناصرها سوريين من العرب وأكراد سوريا يعيشون منذ مئات السنين فى شمال سوريا ويشكلون جزءاً من الدولة السورية، وهم الذين لديهم علاقات خاصة مع الولايات المتحدة وعناصرها العسكرية المنتشرة فى الشمال السورى شرق الفرات، خاصة منبج وما حولها، ويقومون بدور مهم جداً فى محاربة تنظيم داعش الذى ما زالت بعض عناصره تشكل تهديداً للعديد من القرى والمدن فى الشمال السورى. مثل هذا الخلط المقصود الذى يستخدمه «أردوغان» لاعتبارات سياسية داخلية لجذب القوميين الأتراك لسياساته فى الداخل والخارج على السواء، هم المعروف عنهم شدة الكراهية لكل ما هو كردى سواء كان تحت مظلة الدولة التركية أو الدولة السورية.
عمليات الاحتلال التركى لشمال سوريا والتتريك الممنهج من أجل البقاء الطويل استناداً إلى وجود عملاء يدعون معارضة النظام السورى، تشكل خطراً جسيماً على وحدة الأراضى السورية. وكافة القوى الدولية كروسيا وأمريكا وإيران وهم الأكثر انخراطاً فى الأزمة السورية يدركون ذلك جيداً، ومن ثم يبدو الصمت أو المعارضة الباردة أو التفاهم الضمنى بمثابة تأييد عملى لما يقوم به «أردوغان» فى شمال سوريا، والذى يوظف جيداً تفاهماته مع موسكو بشأن المناطق منخفضة الصراع، لا سيما الوضع فى إدلب منذ سبتمبر الماضى، من أجل قضم مزيد من الأراضى السورية ودمجها فى الدولة التركية، وهو ما يثير تساؤلات جمة حول موقف موسكو من وحدة الأراضى السورية. والأمر ذاته بالنسبة لهذا الاشتباك اللفظى التركى الأمريكى حول العملية الجديدة التى يستعد لها الجيش التركى شرق الفرات التى يصر الرئيس «أردوغان» على السيطرة العسكرية عليها رغم وجود قوات أمريكية بالقرب من منبج. وحسب التصريحات التركية فإن ثمة تفاهماً يجرى إعداده مع الأمريكيين من أجل تسهيل العملية العسكرية الجديدة. ويدرك أكراد سوريا أن الولايات المتحدة لا تعبأ بمصيرهم كثيراً، وهى على استعداد للتخلى عنهم فى شرق الفرات كما فعلت فى الغرب، وإن تحالفها وإن كان متوتراً مع أنقرة فله الأولوية. ولا يبقى سوى أن يقوم الجيش السورى بواجبه الوطنى لمنع احتلال تركيا لمزيد من الأراضى، وليكن ذلك بتنسيق شامل مع قوات سوريا الديمقراطية، وإلا ينسلخ قسم آخر من الدولة يبسط عليه «أردوغان» هيمنته واحتلاله.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك