بقلم : د. حسن أبوطالب
فى مؤتمر ميونخ للأمن الذى عقد قبل يومين، أثار موضوع الانسحاب الأمريكى من سوريا والمقرر له نهاية أبريل المقبل وفق آخر مواقف رسمية امريكية، كثيرا من المناقشات بين أهم أربعة أطراف دولية تقود ما يعرف بالتحالف الدولى ضد تنظيم الخلافة الاسلامية داعش، فبينما طالب وزير الدفاع الامريكى بالإنابة بأن يقوم باقى الحلفاء باستكمال مهمة دحر داعش بعد انسحاب الجنود الأمريكيين، ومنع مسلحيه من العودة مرة أخرى للسيطرة على أى مناطق فى الشمال السوري، وضمان ألا يتعرض الأكراد لاسيما قوات حماية الشعب لأى هجوم تركي، أكد مصدر فرنسى مسئول أن الجنود الفرنسيين وقوامهم 1500 جندى لن يبقوا بعد الانسحاب الأمريكي، وهو ما أكدته وزيرة الدفاع الألمانية بالقول: ندخل معا ونخرج معا. وهو تقريبا الموقف البريطانى والبلجيكى والإيطالي. هذه المواقف تصدر فى الوقت الذى تقوم فيه قوات حماية الشعب الكردية بدعم جوى أمريكى ومدفعى فرنسى وعراقى بمهاجمة بقايا تنظيم داعش فى محيط لا يزيد على كيلو متر مربع فى منطقة الباغوز بريف دير الزور، وهى آخر منطقة يتحصن فيها مقاتلو التنظيم الذين يبدون مقاومة شديدة متحصنين بدروع بشرية من الاهالي، والمتوقع أن يتم تحرير تلك المنطقة من هؤلاء الرافضين الاستسلام فى غضون أيام، وهو ما يستند إليه الرئيس ترامب فى إعلان ما يعتبره الانتصار النهائى على دولة الخلافة، مبررا بذلك قرار الانسحاب، وترك مهمة تطهير المناطق المحررة للقوى الإقليمية والمحلية. ومعروف أن بعض التصورات الأمريكية التى نوقشت فى الأشهر القليلة الماضية تعلقت بنشر قوات عربية فى شمال سوريا لتشكل حاجزا بين القوات التركية الطامحة فى احتلال المناطق الكردية تحت مسمى إنشاء منطقة آمنة وبين قوات حماية الشعب الكردية، ولكنه لم يجد أى صدي، ولذا تم تجاوزه،
وحتى مقترح المنطقة الآمنة ما زال فى علم الغيب، خاصة أن الأمر لا يتوقف على التفاهمات الأمريكية التركية وحسب، بل يتطلب تفاهما مع روسيا وايران والحكومة السورية أيضا وفق اتفاق أضنة لعام 1998، ولكل منهم أهداف متباينة، ولكنهم ضد هيمنة تركيا منفردة على مناطق الأكراد السوريين.من الناحية الواقعية الصرفة فإن الانسحاب الأمريكى من شمال شرق سوريا سوف يؤدى إلى تغيير المعادلات على الأرض، وثمة سيناريوهات عديدة يمكن تصورها، وكلها تصب فى اتجاه واحد وهو نشوء حالة فوضى فى المناطق الكردية، واندلاع منافسة حامية الوطيس بين القوى الإقليمية، أبرزها تركيا وإيران، لشغل حالة فراغ القوة التى ستنشأ بعد الانسحاب، وسوف يكون لروسيا دور رئيسى فى ضبط هذه المنافسات، وهو ما ظهر فى اجتماعات قمة سوتشى الثلاثية التى عقدت الأسبوع الماضى وضمت رؤساء روسيا وإيران وتركيا، والتى أجلت البت فى الخطوة التالية بعد الانسحاب الأمريكى المنتظر. ويُعد الطرف الكردى بشقيه المدنى والعسكرى الأكثر تضررا من الانسحاب الأمريكي، فاحتمال مواجهة الجيش التركى وعملائه من الجماعات المسلحة والإرهابية هو الأكثر ترجيحا، وفى حال عدم التوصل إلى تفاهمات مع حكومة الرئيس بشار الأسد تتيح عودة الجيش السورى النظامى إلى مناطق الأكراد، وكيفية إدارة البلدات والقرى الكردية فى ظل الدولة السورية، فسوف يدفع الأكراد ثمنا باهظا، وفى الوقت نفسه ستدفع الحكومة السورية ثمنا مماثلا بشأن سيادتها وقدرتها على السيطرة على أراضيها. وكانت موسكو فى ديسمبر الماضى وضعت بين يدى القيادة السورية مقترحات كردية تعالج وضعية قوات الشعب الكردية والإدارة الذاتية فى المناطق الكردية، غير أن دمشق لم تقدم ردا حاسما ولم تدخل فى تفاوض حقيقى مع ممثلى الأكراد. وهو ما تم تفسيره بأن القيادة السورية تنتظر الانسحاب الأمريكى وبعدها سيكون الأكراد أمام ضغط تركى هائل، وبالتالى سيقدمون تنازلات كبرى للحكومة السورية. ومثل هذا التفكير يصطدم بواقع الاستعداد التركى المُعلن بالهجوم واحتلال تلك المناطق السورية فى وقت وجيز بعد الانسحاب الأمريكي،
وإذا لم يكن هناك موقف مسبق وواضح ويدل على عزم ونية دمشق فى حماية أراضيها ومواطنيها سواء كانوا كردا أو عربا أو اى اقلية عرقية أخري، فمن اليسير أن تقرأ انقرة هذا التردد باعتباره دعوة لها لقضم أراض سورية جديدة وتحويلها إلى محميات تركية لا شأن لدمشق بها. إن التعويل على تدخل روسى يمنع الرئيس أردوغان من مغامرة احتلال شمال شرق سوريا، لا يعد خيارا حكيما، فروسيا لها حساباتها الذاتية، وبالقطع لن تدخل فى معركة مع الجيش التركى إن احتل مدنا أو قرى كردية وأقام منطقة عازلة أو آمنة، أيا كان اسمها. كما أن التجمعات المسنودة من إيران، سواء كانت سورية أو عراقية أو إيرانية لها حساباتها الخاصة بمن يدعمها وليس بقرار دمشق،
وهو ما يعد عبئا آخر على السيادة السورية، ويرسل رسالة خاطئة للقائمين على الحكم فى دمشق.الحسابات الإقليمية بشأن المناطق الكردية لا يغطى على حقيقة أن هزيمة تنظيم داعش هى هزيمة جزئية، وتدور حول إنهاء كيان الدولة وإفشال قدرة التنظيم على التمكن فى قطعة من الأرض وسلخها عن سيادة أصحابها الأصلاء، فالتنظيم نفسه ما زال باقيا فى مستويين مهمين يتطلبان فترة زمنية طويلة وجهودا جبارة للقضاء عليهما، وهما التابعون للتنظيم والمؤمنون بفلسفته وأيديولوجيته، وهم موجودن كخلايا نائمة فى أكثر من مكان وموقع. والثانى فكرة التنظيم نفسها القائمة على مبدأ الجهاد الدائم ضد من يسمونهم أعداء الأمة الإسلامية.
واللافت هنا أن وزير الدفاع الأمريكى بالإنابة فى كلمته بمؤتمر ميونيخ طالب حلفاء بلاده بالاستمرار فى مواجهة داعش فى أفغانستان والفلبين ومنطقة الساحل بإفريقيا، وهو اعتراف بأن إعلان هزيمة داعش فى سوريا ليست إلا خدعة كبيرة. وهو ما بينته وزيرة الدفاع الالمانية فأكدت أن التنظيم يُحور نفسه وينتقل من موقع الى آخر ومن المبكر إعلان هزيمته. وكثير من المصادر الأمريكية الموثوقة تتشكك فى قدرة تركيا وفى رغبتها أيضا لاستكمال مهمة دحر بقايا التنظيم، وتشير الى وجود بنية أساسية لداعش موجودة فى تركيا نفسها، وهوما تعلمه أجهزة الأمن التركية جيدا، ولكنها لا تقوم بأى جهد للقضاء على تلك البنية.نقلا عن الاهرام القاهريةالمقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك