بقلم - حسن أبوطالب
يمر مجلس التعاون الخليجى بمرحلة حرجة تتعلق بمستقبله وبقدرته على البقاء فى مواجهة التحديات التى تحيط بالعديد من أطرافه. والتساؤلات التى يثيرها المراقبون حول هذا المصير لها ما يبررها، ومركزها الرئيسى مرتبط بالسلوك القطرى الذى أثبت خلال العقدين الماضيين أنه خارج التوافق الخليجى الذى يمثل حجر الأساس الذى بنى عليه هذا التجمع، بل الأكثر من ذلك أن تجليات هذا السلوك فى الأعوام الخمسة الماضية باتت تشكل تهديداً مباشراً لأطراف رئيسية داخل المجلس، من خلال تحالفه مع قوتين إقليميتين لكل منهما سياسات عدائية واضحة لا تخطئها العين، وتمثل تهديداً وجودياً لبعض أعضاء المجلس كما هو الحال بالنسبة للسياسة الإيرانية تجاه البحرين والمملكة العربية السعودية، وتمثل تهديداً ومبعثاً للتوتر السياسى والدعائى مثل المواقف التركية تجاه السعودية والبحرين والإمارات. ومن وراء ذلك ارتباط مصيرى بين النظام القطرى والتنظيم الدولى للإخوان المسلمين، وجماعاته الفرعية، والكثير منها مصنف إرهابياً لدى بعض أعضاء المجلس ودول عربية أخرى. وفى الإجمال فبدلاً من أن تكون قطر رصيداً إضافياً لقوة المجلس صارت خصماً منه وتهديداً له.
وبناء على هذه المجموعة من التداخلات، يصبح الحديث حول مصير المجلس مشروعاً، ولا يعنى الأمر بالضرورة أن ينتهى المجلس ككل، أو ينفرط عقده ويندثر أثره كما يتصور بعض المحللين الذين يدفعون دفعاً إلى إنهاء كل عمل جماعى عربى من أجل إتاحة مزيد من الفرص لقوى خارجية، ولمزيد من التشرذم العربى. والمنطقى والضرورى هو أن يتم التفكير فى مصير المجلس من زاوية جديدة ومن منظور يستند إلى خبرات المنظمات الإقليمية الأخرى، التى واجهت عثرات وتحديات وجودية ولكنها استطاعت من خلال إرادة حديدية وجماعية أن تتغلب على تلك التحديات، وأن تنهض مرة أخرى وفق رؤية جديدة تتناسب مع التطورات الإقليمية والعالمية. ولعل إصرار البيان الختامى لقمة المجلس التاسعة الثلاثين بالرياض على تعزيز بقاء المجلس واستمراره، ما يُدلل على أن بقاء المجلس ضرورة، ولكنه لا ينفى الحاجة الماسة والعاجلة إلى رؤية جديدة حتى يظل هذا البقاء مُفيداً لأصحابه، وحاجة ماسة أيضاً إلى إعادة الهيكلة المؤسسية، وإلى ميثاق جديد يدفع المجلس إلى الأمام أكثر وأكثر. ومن المهم التأكيد على أن بقاء مجلس التعاون الخليجى ليس أمراً يخص الخليجيين وحدهم، بل يخص المنظومة العربية ككل، والتى يكفيها ما تعانيه من تشرذم وضعف، وليست بحاجة إلى معاناة أخرى.
من المقولات المعبرة بصدق عن حالة المنظمات الإقليمية فى التاريخ الإنسانى كله، التى يجتمع تحت مظلتها عدد من الدول حول هدف معين ملخصه التعاون والتكامل وفق هيكلية مقبولة من الجميع، أن تلك المنظمات مثل الكائن الحى له دورة حياة ومراحل من الصعود والهبوط وربما الانحدار، ولكن ما دام تتوافر بعض إرادة لدى أطرافه، فإنه يستجمع تلك الإرادة ويعيد هيكلة نفسه حسب مقتضيات التطورات من أجل انطلاقة جديدة. فى بعض تجارب إعادة الانطلاق والهيكلة الجديدة يظل الأطراف المشاركون موجودين وفق الرؤية الجديدة، وفى بعض الحالات يخرج أطراف ويدخل آخرون مقتنعون بالمنظومة الجديدة باعتبارها تحقق لهم أهدافهم المشتركة.
إذاً مسألة خروج طرف من تجمع إقليمى لا تعنى أنها نهاية المطاف لهذا التجمع، بل غالباً ما تكون بداية جديدة أكثر قدرة على إصابة الأهداف المنشودة. إذا طبقنا هذا الاستنتاج على مجلس التعاون الخليجى، فمن الممكن وبشدة أن يصبح المجلس بدون أحد أعضائه المشاغبين والخارجين على التوافق العام نقطة بداية لمنظومة أكثر تماسكاً وأكثر جدية وأكثر تلاحماً وأكثر إنجازاً. لكن الوصول إلى هذه البداية الجديدة، سواء أخذت شكل استمرار المجلس بدون قطر، أو ضم أطراف آخرين بعد خروج قطر، يواجه العديد من الصعوبات العملية والقانونية وفقاً للأسس التى بنى عليها المجلس منذ 1982. وأبرزها أن ميثاق تأسيس المجلس لم يتضمن كيفية تعليق أو طرد أحد أطرافه. كان التصور مثالياً مستنداً إلى أن وحدة المصير بين الدول العربية الخليجية لن تسمح أبداً لأى طرف بأن يكون بمثابة خنجر مسموم فى ظهر الأعضاء الآخرين، كذلك يستند اتخاذ القرارات إلى الإجماع، دون التفرقة بين قرارات هيكلية أو قرارات إجرائية. وهنا أيضاً كان التصور مثالياً وهو أن تشابه الأنظمة وعلاقاتها البينية والتهديدات والتحديات المشتركة وكذلك الارتباطات المجتمعية الواسعة سوف تدفع الجميع إلى تبنى الرؤية ذاتها تجاه أية قضية خارجية أو تخص أعضاء المجلس.
لقد ثبت أن بناء منظومات إقليمية، سواء وظيفية تتعلق بإنجاز مهام محددة أمنية أو اقتصادية أو سياسية، أو كانت منظمات خاصة بأعضاء محددين تربطهم صلات الجغرافيا والتاريخ المشترك، يتطلب فى كلتا الحالتين وجود ميثاق يتضمن سبل التصرف فى الحالات الاستثنائية التى تتضمن خروج عضو على الإطار العام للمنظومة الإقليمية، أو أصبح عنصر تهديد وخطر على باقى الأعضاء وعلى المنظمة الإقليمية نفسها. بعبارة أخرى أن يتضمن الميثاق المنشئ سبل التخلص من الأعضاء المتحولين وفق مبادئ وقواعد محددة ومرنة استناداً إلى الأغلبية وليس الإجماع، كما هو حال ميثاق التجمع الخليجى، وبحيث تتيح تلك الإجراءات للغالبية المتضررة أن تقول لهذا الطرف لا مكان لك بيننا.
هذا الأمر يتطلب فى الحالة الخليجية أولاً أن يتم إعادة صياغة البنود المتعلقة بالعضوية وكذلك كيفية اتخاذ القرارات، وكيفية محاسبة الطرف الخارج عن التوافق. وهنا إشكالية كبرى، وما دامت قطر محتفظة بعضويتها ستظل مانعة لأى تغيير أو تحديث لميثاق المجلس. وللتذكير ففى بداية الأزمة التى دفعت ثلاثة من أعضاء المجلس، صيف 2017، وهم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين، إلى مقاطعة قطر حتى تعود إلى رشدها وتتخلى عن دعم الإرهاب والتطرف والدعاية السوداء تجاه تلك الدول، قال وزير خارجيتها إن بلاده لن تخرج من المجلس ولن يستطيع الأعضاء الآخرون تعليق عضويتها أو طردها لأن ذلك يتطلب الإجماع، أى يتطلب أن توافق قطر على هذا القرار، وهو غير ممكن عملياً ومنطقياً.
وثمة إشكالية ثانية، لها بعدان عملى وقانونى متداخلان، تتعلق بأن كلاً من عمان والكويت ما زالتا تريان أن الإبقاء على المجلس بهيكله وميثاقه الراهن هو الأجدى، وأن الأزمة القطرية لن تعوق مسيرته، وفى يوم ما سوف يعبر الجميع تلك الأزمة، وعملياً يحول ذلك دون تحقيق التوافق المطلوب لإعادة تأسيس المجلس وفق أسس جديدة تدفعه لتجاوز محنته الراهنة.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك