بقلم : د. حسن أبوطالب
من الطبيعى أن تشهد الأزمات الدولية انقسامات وشدا وجذبا، وما نشهده الآن فى المواقف الدولية تجاه أزمة فنزويلا يجسد تلك المرحلة الأولى التى تتداخل فيها المواقف على نحو يزيد من تعقيدها، ويجعل الحلول السلمية المطروحة فى مهب الريح. والحقيقة أن جملة المواقف الدولية لاسيما التى تعمل على هديها الولايات المتحدة بشأن دعم رئيس الجمعية الوطنية غوايدو، الذى أعلن نفسه رئيسا مؤقتا بعد مرور أسبوعين كاملين على بدء الولاية الثانية للرئيس المنتخب مادورو، تثير الكثير من التناقضات والإشكاليات القانونية والعملية، ولا تقدم حلا بقدر ما تزيد الأزمة وتدفع بفنزويلا إلى أتون حرب أهلية وتدخلات عسكرية خارجية وخراب ودمار كما حدث فى سوريا وليبيا.
أحد أبرز التناقضات يتعلق بالرئيس ترامب، الذى كثيرا ما يؤكد التزامه بالوعود التى قطعها إبان حملته الانتخابية، وكان من بين تلك الوعود هو عدم التدخل فى شئون دول أخرى، وترك مصيرها لاختيار شعوبها. وتجيء حالة فنزويلا الراهنة لتعيد السياسات الأمريكية إلى ما هو معروف عنها تاريخيا فى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، حيث التدخل المباشر، وتوقيع عقوبات أحادية وفرضها على باقى دول العالم، ودعم الانقلابات وممارسة جميع الضغوط على أطراف بعينها لمصلحة أطراف أخرى تعتبرهم واشنطن أقرب لها ويحمون مصالحها. وفى حالة فنزويلا الراهنة يقوم رئيس الجمعية الوطنية بإعلان نفسه رئيسا مؤقتا دون سند من قانون ولا دستور، ويطالب الولايات المتحدة بالوقوف معه لاستكمال خطته فى إبعاد الرئيس المنتخب، ثم يقول الرئيس ترامب إن ذلك هو بداية الكفاح لاستعادة الديمقراطية فى فنزويلا. وهنا يبرز التناقض الأمريكى الفج فى أن الديمقراطية تستند الى انتخابات وليس انقلابات سياسية وتجاوزا للدستور، صحيح أن غوايدو يمثل معارضة لها مؤيدون فى الداخل الفنزويلى، وكذلك الرئيس مادورو الذى انتخبه 86 فى المائة من المشاركين فى الانتخابات الرئاسية التى عقدت فى مايو الماضى. وإذا استند كل زعيم معارضة إلى أن هناك من يؤيده ونصب نفسه رئيسا مؤقتا، ويطالب قوى خارجية بدعمه وتأييده، ويحث جيش بلاده على تأييده، فتلك قمة الانقلاب على الدستور المعمول به، ولا علاقة له بالديمقراطية التى يتشدق بها الغرب اجمالا حين يريد أن يقضى على دولة ونظام تتعارض توجيهاته مع التوجهات الامريكية والغربية. واختصارا فالمسألة هنا لا علاقة لها بالشعارات البراقة، وإنما بسياسة هدم الدول وإثارة الحروب الأهلية داخلها وتدمير مستقبلها. وأيا كان حجم الانتقادات التى توجه إلى حكم مادورو خاصة زيادة الأوضاع الاقتصادية البائسة، فإن من يؤيد إنقلاب غوايدو، يعنى أنه يوافق مبدئيا على تدخل واشنطن فى الإطاحة به عبر انقلاب غير قانونى.
ولا يقف الأمر عند تناقض الموقف الأمريكى، بل يمتد الى تناقض أوروبى صارخ، فقد أسس الاتحاد الاوروبى موقفه على تأييد غوايدو باعتباره رئيس الجمعية الوطنية وهى المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيا ويجب حمايتها حسب نص تصريح موجرينى مفوضة الاتحاد الأوروبى فى الأول من فبراير الحالى. فإذا كان هناك برلمان انتخب ديمقراطيا فى فنزويلا، فهذا يعنى أن الاتهامات الموجهة لنظام مادورو كالديكتاتورية واغتصاب السلطة هى اتهامات غير صحيحة، وانما مفتعلة لتبرير التدخل فى شئون فنزويلا، إذ كيف يسمح نظام ديكتاتورى تسلطى بفوز المعارضة، وإجراء انتخابات نزيهة لا يحصل فيها على كل شيء.
التناقض الثالث يتعلق بالالتزام بالتعاقدات والعهود وثروات الشعوب، والواضح فى حالة فنزويلا، كما فى حالات أخرى عديدة، تتغلب نوازع النهب والسيطرة على ثروات الشعوب الاخرى من خلال المصادرة غير القانونية ووضع اليد عنوة على تلك الثروات، ومنع السلطات الشرعية من التصرف فيها وتوقيع العقوبات الظالمة عليها. فقد فرضت واشنطن نهاية يناير الماضى عقوبات على شركة النفط الوطنية الفنزويلية، وحجب عائدات النفط الفنزولى عن حكومة مادورو، وفرضت عقوبات أخرى على شركة نفطية فى نيكارجوا تتعاون مع شركة النفط الفنزويلية. كما منع البنك البريطانى، استجابة لضغوط أمريكية، إصدار ذهب بقيمة 2٫1 مليار دولار لحكومة مادورو، مع وقف جميع الحسابات الخاصة بالحكومة الفنزويلية. ومثل هذه التصرفات لا علاقة لها بالدفاع عن الديمقراطية أو أى قيمة انسانية، بل تدخل فى إطار السياسات الامبريالية والاستغلال لثروات الشعوب، خاصة أن الاوضاع الاقتصادية فى فنزويلا متدهورة اصلا، ومن شأن منع الحكومة الشرعية من التصرف فى حقوقها المشروعة أن يزداد الوضع سوءا وتتدهور أحوال المواطنين، وحينها لن تنفعهم شعارات واشنطن ولا ضغوط أوروبا.
التناقض الرابع يتعلق برفض الدول المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الانسان دعوات الحوار من أجل تسوية الازمة ووضع البلاد على أول طريق الاستقرار. فبدلا من التجاوب ولو المشروط مع دعوة الرئيس مادورو للحوار مع المعارضة والوصول إلى تسوية تجنب البلاد خرابا أكبر، فإذا بالموقف الاوروبى كامتداد للموقف الامريكى يوجه التهديدات ويضع شروطا زمنية لا تتجاوز عدة أيام للدعوة الى انتخابات رئاسية. وكأن المطلوب هو تأجيج الأزمة وتضخيم العقبات، وتوجيه الإهانات للرئيس المنتخب وإيجاد ذرائع لمزيد من التدخل فى الشأن الفنزويلى. التناقض الخامس يتعلق بخدعة تمثيل المجتمع الدولى، فمنذ اللحظة الأولى لإعلان غوايدو نفسه رئيسا مؤقتا، ادعت إدارة الرئيس ترامب ان على مادورو الانصياع لمطالب المجتمع الدولى وترك منصبه فورا وإلا وسيواجه مصيرا مؤلما. وكما هو معروف ليس هناك مجتمع دولى موحد، ولكن استخدام التعبير من هؤلاء يستهدف الخداع والتأثير على الاطراف الأخرى بزعم أن ما تقوله واشنطن ومعها ثلاث أو أربع عوأصم أوروبية هو مطلب العالم بأسره. ولو كان ذلك صحيحا لرأينا عدد المؤيدين لانقلاب غوايدو يشمل العالم كله أو غالبيته العظمى، وهو ما لم يحدث، فلم يزد عدد مؤيدى انقلاب غوايدو عن عشر دول بما فيها ست دول أمريكية لا تينية تسير وفقا للهوى الامريكى، وليست كل دول الاتحاد الاوروبى مع تأييد غوايدو، وإفريقيا لم يصدر عنها أى تأييد سوى دولة وحيدة فى الشمال. وهناك دول مهمة تقف بالمرصاد للتدخل الأمريكى وتؤيد مادورو وتعبتره الرئيس الشرعى، كروسيا والصين وكوبا وغيرها، وغالبية دول أمريكا اللاتينية لاسيما مجموعة ليما ليست مع زيادة حدة الازمة وتسعى إلى فرض صيغة حوار بناء.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك