بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
بعد ما يقارب العام من حدوث قضية خاشقجي، وبعد عملٍ متواصلٍ وجهودٍ حثيثة للنيابة السعودية، أصدرت المحكمة حكمها بالقتل قصاصاً لخمسة متهمين، وبأحكام متفاوتة؛ بالسجن للبعض الآخر، وبالبراءة الكاملة لمتهمين آخرين.
حكمٌ للتاريخ يثبت بما لا يدع مجالاً للشك نزاهة وتميّز القضاء السعودي العريق والرصين، بحيث تمت المحاكمات بهدوء يتتبع الحقائق، ومن دون أي ادعاءات أو شعاراتٍ لا تخدم القضية ولا تحقق العدالة، وقد حظي المتهمون بمحامين للدفاع عنهم، وحضرت أسرة المجني عليه المحاكمة التي تمت في عشر جلسات حتى صدور الحكم الابتدائي.
هذه القضية نموذجٌ صارخٌ لمحاولات تسييس القضاء، وعلى المتاجرة السياسية الرخيصة بدماء الأبرياء، بحيث تبنّت التصعيد في القضية كل من تركيا وجماعة «الإخوان»، وتحالفت معهم بعض وسائل الإعلام الغربية التي تمثل خط اليسار المعادي بطبيعته للدول ذات النظام الملكي في العالم، ونفخ هذا الجمع المعادي في كير الفتنة، وتاجروا بدم القتيل، ولم يكن هدفهم تحقيق العدالة للمجني عليه أو لأسرته بقدر ما أرادوا الإضرار بسمعة المملكة العربية السعودية لحقدٍ دفينٍ يأكل قلوبهم على مكانة السعودية وقوتها في المنطقة والعالم، والحاقد لا يعرف العدل ولا ينشده، وقد افتضح كل شيء لاحقاً في مراتٍ متعددة جعلتهم يخسرون قضيتهم أمام الرأي العام الإقليمي والدولي.
قال القضاء السعودي كلمته، وبقي للمدانين فرصتان للتأكد من عدالة الأحكام، هما محكمة الاستئناف أولاً، والمحكمة العليا ثانياً، قبل صدور الأحكام النهائية التي تكتسب القطعية، بحسب إجراءات القضاء السعودي الصارمة التي تضمن تحقيق العدالة للمجني عليه وللجناة في الوقت نفسه، حتى لا يُدان بريء ولا يُبرّأ مدان.
حظي الحكم وإجراءاته الصارمة بتأييد واسع النطاق خليجياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، الكل يشيد بنزاهة القضاء السعودي واحترافيته ودقته ومهنيته العالية، وبقي خصوم السعودية يلوكون شعاراتهم المهترئة ويرددونها بإصرارٍ عجيبٍ، بعد افتضاح مؤامرتهم وخطابهم وعداوتهم، وأن تحقيق العدالة لم يكن يوماً ضمن أهدافهم، على الرغم من تشدقهم الطويل بها، وانتصرت السعودية كالعادة، وأبقى الله للخصوم ما يسوءهم.
لم يستثن القضاء أحداً ممن طالهم الاتهام من قريبٍ أو بعيدٍ، وكما كانت أحكام الإدانة صارمة كانت أحكام البراءة عادلة، وقد كان مما ساء الشعب السعودي وصول الحملات المغرضة لاتهام اثنين من رجالات الدولة المخلصين والمعروفين بإخلاصهم وتفانيهم في خدمة وطنهم، وهما الأستاذ سعود القحطاني، والأستاذ أحمد عسيري، اللذان تم التحقيق معهما، وثبتت براءتهما الكاملة والتامة من كل التهم المنسوبة إليهما.
بسبب طبيعة الاستهداف المباشر للسعودية من قبل التحالف المذكور أعلاه، وملابسات القضية، والتلاعب الذي اتضحت خيوطه لاحقاً، اصطف الشعب السعودي خلف قيادته، وعرف المنصفون أن الهدف هو ضرب الدولة السعودية، وليس تحقيق العدالة، ومن هنا فشل المشروع المعادي، وانتصرت السعودية، وازدادت قوة وتأثيراً.
لم يشك أحد ممن يعرف المستشار سعود القحطاني في براءته من هذه التهمة المسيّسة، ولكن هذا الحكم أنصف هذا الرجل وتاريخه والأدوار التاريخية التي أنجزها خدمة لوطنه وولي أمره منذ سنواتٍ طويلة، ومع ذلك خضع لكل الإجراءات التي طلبتها النيابة، وأمر بها خادم الحرمين الشريفين، وغاب عن المشهد حتى اكتملت التحقيقات، واجتمعت المعلومات، وصدرت الأحكام، وظهرت البراءة واضحة وصريحة.
فرح السعوديون ببراءة سعود لأنه رجل دولة من طرازٍ رفيعٍ خدم بلاده وولي أمره بكل إخلاصٍ وتفانٍ، وكان على تواصل دائم مع الناس والشباب، ونجح في كل الملفات التي أُوكِلت إليه، وقبل هذا وذاك كان حريصاً على مصلحة الدولة أولاً وأخيراً، لا تعنيه مصالح شخصية قد تغوي آخرين أكبر أو أصغر منه شأناً، وهذا نوعٌ نادرٌ من رجال الدولة في كل دول العالم.
الحقد على سعود كان لإدارته ملفات غاية في الأهمية، على رأسها تصنيف جماعة «الإخوان» جماعة إرهابية، وقد بنى هذا على وعي عميق لديه بمثل هذه الملفات المهمة كدارسٍ للقانون وباحثٍ وكاتبٍ متعمقٍ، ما انعكس على عمله وعياً وإنجازاً.
أمثال سعود من رجال الدولة في السعودية يؤدون أدواراً مشابهة، كل فيما يخصه، بتوجيه القيادة ورؤيتها، ولكنهم بعيدون عن الإعلام وصناعة الرأي العام، التي هي إحدى المهام التي عني بها سعود، وليس أوضح من المواجهة الحامية الوطيس التي أدارها بكل اقتدار في مواجهة كل المشروعات المعادية على جميع المستويات، والتي هزم بها وسائل إعلام تم صرف المليارات على إنشائها، وذلك أنه اعتمد على عمق ولاء السعوديين لدولتهم، وراهَن على شجاعتهم ووعيهم، ونجح في ذلك نجاحاً شهد به الجميع من الحلفاء والخصوم.
كانت قضية خاشقجي أزمة سياسية بكل المقاييس، وقد مرّت الدولة السعودية في تاريخها الحديث بأمثالها كثيراً، ولكنها خرجت من هذه الأزمة أكثر قوة وأعمق مكانة وأبعد رؤية في المستقبل، وبعض الأزمات تتحول حين إدارتها باقتدارٍ واحترافية إلى نتائج إيجابية كبرى لم تدر بأذهان الخصوم وهم يدبرون مؤامراتهم ودسائسهم.
مثل هذه الأزمات توضح للدول ولصُنّاع القرار مواقف الدول والجماعات والأشخاص المعادين، كما تفضح المنافقين الذين يضعون قدماً هنا وقدماً هناك، وهذا دون شكٍ أمرٌ مفيدٌ، ومن أوضح الأمثلة على هذا في العقد الأخير ما جرى مطلع العقد مما كان يُعرف بهتاناً بـ«الربيع العربي»، فكان ربيع الأصولية والإرهاب بامتياز، وكشف أوراق الخصوم في المنطقة بجلاء، فأصبحت الدول التي نجت منه أكثر قوة وتماسكاً، وأهم من هذا كله أكثر وعياً بنفسها ومصالحها وأصدقائها وخصومها.
كل مَن غاص في وحل هذه القضية من دول وجماعات وأشخاصٍ أصبحوا يعضُّون أصابع الندم بعد انتهاء القضية ووصولها إلى برّ أمان العدل والحقيقة، وقد باتوا مكشوفين تماماً، وإن حاول بعضهم إعادة التموضع، ومحاولة تقديم تبريراتٍ باردة، على أمل إعادة التواصل أو تخفيف الأضرار.
أخيراً، فتاريخ التآمر ضد الدولة السعودية الحديثة قديمٌ، منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز، ومن بعده أبناؤه الملوك، وهو مستمرّ اليوم، وسيبقى في الغد، وقد قاده اليساريون والقوميون والبعثيون والإسلاميون في مراحل مختلفة، ذلك أن العدو الذي يراهن على فشلك يزداد غيظاً وحنقاً كلما ازددت نجاحاً وتألقاً ومكانة وتأثيراً. وكل عامٍ وأنتم بخير.
أرسل تعليقك