بقلم - أمينة خيري
قراءة المشاهد وتحليل الأمور لا يستويان إلا بالنظرة البانورامية. لذلك نجد التحليل المغموس في حدث، مهما كان جللًا، دون النظر إلى ما حوله من أحداث، ودون الإلمام بخلفياته التاريخية، غالبًا ما يكون مغلوطًا أو مضلّلًا أو مشوهًا أو كل ما سبق. لذلك فإن جانبًا كبيرًا من التحليلات في إعلامنا يصلح أن يكون قراءة عابرة في حدث «على الماشى» وليس تحليلًا عميقًا يساعد المتلقى على فهم «لماذا» و«كيف» والمتوقع، وليس «ماذا» حدث مع كثير من التوابل الحرّيفة ومُكْسِبات الطعم المُعاد تدويرها. ولذلك أيضًا، فإن جانبًا كبيرًا جدًا مما يرد على «فيسبوك» من تدوينات- يُهيَّأ لأصحابها أنهم باتوا مُحلِّلين متخصصين مؤهَّلين للعمل في مؤسسات الـThink tank ومراكز الأبحاث- ليس إلا بضاعة جذابة تحمل مضمونًا غير مضمون.
ويأتى ضمان جودة التحليل في أمور ضخمة، مثل تحركات تركيا في ليبيا، وتطور الأوضاع في العراق، وضلوع إيران في المشهد، وحقيقة ما يجرى في اليمن، وما يدور على الساحتين السياسية والاجتماعية في مصر وتونس، وغيرها من المشاهد شديدة التعقيد والتشابك في وقوف المُحلِّلين على قدر أدنى من الحياد في القراءة والتفنيد. والتحليل السياسى علم وليس فتح مندل.
المحلل السياسى يدرس تطور الأنظمة السياسية، ويبحث في مختلف القضايا السياسية ومعها الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، التي لا يمكن فصلها عن السياسة، ويضلع في شؤون العلاقات الدولية والسياسات والأيديولوجيات، بما فيها بالطبع إقحام الدين في السياسة، وهو الذي يجمع المعلومات «وليس الآراء» ويحلل كل ما سبق ليخرج بتفسيرات وتوقعات. وكلما نأى المحلل بنفسه بعيدًا عن التوجهات الحنجورية والانغماسات القومية والمعتقدات الدينية والتوجيهات الاستخباراتية، خرجت تحليلاته أصح وأفضل وأعمق وأكثر قدرة على توجيه سياسات الدول بحكمة وحنكة. كل ما سبق لا يعنى أبدًا أن يكون المحلل السياسى بلا انتماءات أو قناعات أو توجهات شخصية. لكن قدرته على خلع هذه التوجهات على باب غرفة التحليل هي التي تحدد شطارته. صحيح أن المحلل الذي يدق على النعرات الوطنية، ويسهب في الاختيالات الدينية، وينجرف وراء العواطف الشعبية، يحقق نسب مشاهدة ومتابعة وكذلك رضا الكبار، لكن كل ذلك إلى زوال. والأدهى أن كل ذلك من شأنه أن «يلبس الوطن والمواطنين في حيطة»، إن لم يكن اليوم فغدًا أو بعد غد على أكثر تقدير.
كل التقدير لكل مواطن يدون أو يغرد أو يدلى برأى على مواقع التواصل الاجتماعى. وكل منا يعرف في قرارة نفسه ماهية التدوين، بمعنى: كل منا يعلم علم اليقين الخط الفاصل بين الرأى المنزَّه عن المصلحة الشخصية أو التوجه الدينى أو ما نمى إلى مسامعه على القهوة أو في الأتوبيس أو على شاشات التوك شو، وبين الرأى الغارق فيما سبق. وعُذر المواطن في ذلك أنه ليس محللًا سياسيًا. أما المحلل السياسى فلا عذر له.
أرسل تعليقك