ما الذي يجعل المستشفى في لندن أو استكهولم أو زيوريخ نظيفا وبالفعل مصحة، وما الذي يجعل المستشفى في كثير من البلدان العربية قذرا وضد مفهوم الصحة؟ هل هي القوانين، أم المباني، أم ثقافة المجتمع، أم تدريب الأطباء؟ في تصوري أن الفارق بين حضارة وأخرى يتلخص في المستشفى، رعاية الأطباء والتزامهم الأخلاقي بالمرضى، والمباني وعمال النظافة، فعندما تدخل مستشفى في أي عاصمة غربية تحس أنك قادم من بلدان عشوائية لا علاقة لها بفكرة الصحة. حتى مستشفياتنا الخاصة الاستثمارية،
كما يسمونها، يكون الفارق بينها كما الفارق بين الأتوبيس والتاكسي الأسود في القاهرة، كلاهما قذر، الفارق هو أنك تستمتع بالقذارة في زحام الأتوبيس أو بمفردك في التاكسي، ومع ذلك لا يزال بيننا من يرى في
حديث المقارنات جلدا للذات، وأن «حضارتنا زي الفل»، للدرجة التي نسينا معها لون الفل ورائحة الفل، من كثرة المقارنة، وأصبحت كلمة فل تعني قذارة مغطاة بنفاق ثقافي مدفوع بعقدة النقص، في الدفاع عن شيء لا يمكن الدفاع عنه في أي عالم آدمي.
لماذا لا تجد في مدن الغرب ما نقول عنها «رائحة المستشفى»؛ إذ لا رائحة للمستشفى في الغرب تختلف عن رائحة مكان عمل آخر، نفس مستوى النظافة والرقي في التعامل في حدود واضحة بين المفيد والمستفيد، وبين طالب الخدمة ومن يقدمها، لا حشو في المنتصف، ولا محاولات لتبرير العجز بفهلوة كلامية، لا علاقة لها بما هو مطلوب لحظتها.
دائًما ما يحيرني لماذا رغم كل ما لدينا من قدرات وأموال في العالم العربي ليس لدينا مستشفى يليق بالبشر؟!.. وأنا لا أتحدث هنا عن جناح خاص في المستشفى العسكري الوحيد، أو في المستشفى الذي يستقبل بعض المسؤولين وذويهم.
في تجربة شخصية لي مررت بها في القاهرة، حين مرضت ابنتي وذهبنا بها إلى مشفى خاص، يفترض أنه من المشافي الراقية. غرفة الطبيب كانت خانقة برائحة دخان السجائر، الحمامات كانت بدائية وقذرة. كيف
لي أن أثق بأي تشخيص أو علاج يقدمه مشفى كهذا لطفلتي؟ الشيء الوحيد الذي كنت أكيدا أن المشفى حريص عليه هو الفاتورة وفقط!
طبعا لن أحدثكم عن تجاربي الشخصية في مستشفيات الصعيد الجواني، الذي نشأت فيه، فتلك أمور لو كتبت لن يصدقها عاقل من هول ما هي مخزية. الفارق هو أن أي رئيس في أميركا أو رئيس وزراء في بريطانيا تبنى حملته على الصحة والضرائب.
صحة المجتمعات والأفراد هي حجر الزاوية في المجتمعات الغربية. وبالطبع هذه دول غنية جًدا في حالة بريطانيا وأميركا، ومع ذلك معركة تحسين مستوى الصحة هي المعركة الأكبر في الانتخابات. تشتكي المستشفيات البريطانية من نقص الأموال رغم ما يضخ فيها؛ لأن المطلوب لمنظومة صحة مجانية كثير. فهناك أطباء مؤهلون ومبان سليمة، ونظافة وأدوية ومتابعة للمرضى، كل ذلك يكلف الكثير.
عندنا يتحدثون عن الصحة المجانية والتعليم المجاني وهم لا يتطببون ولا يتعلمون. المجاني عندنا لا يصرف عليه، أما في الغرب فالصحة المجانية هي من أموال دافعي الضرائب، بما يجعلهم يستمرون في دفع هذه الضرائب؛ لأنهم يأخذون في مقابلها خدمات تليق. فالدولة لا تتكرم على المواطن. الدولة هي المواطن؛ إذ لا وطن بلا مواطن في الغرب.
المستشفى ليس ظاهرة من حيث النظافة وكفاءة الأطباء والعاملين والرعاية، المستشفى أيضا يقع داخل المستشفى أحيانا، ملايين الدولارات تذهب تعويضا للمريض إذا ما حدث خطأ طبي. الطبيب في الغرب ليس سياق قانوني محكم، فالطبيب الذي يخطئ يحاكم ويغرم المستشفى ليس بمائة جنيه، بل بغرامة تقفل مجرد ضمير، بل هو مراقبة لقوانين صارمة من يخطئ ضدها يدفع الثمن باهظا.
كتبت ذات مرة عن مستشفيات الصعيد، فردت علّي جوقة من المنتفعين بأن الخدمة في الصعيد تضاهي الخدمة الطبية في سويسرا. طبعا لا خجل. فكيف يكون هذا الكلام معقولا، وليس الخبر كالعيان. الحضارات الخالية من المعايير لا تعد حضارة. ما يميز الحضارات هي المعايير والمؤشرات. وإذا أردنا أن نقارن حضارتنا بحضارتهم، فالمؤشرات الأولى هي ليست الطائرات والمدافع، بل المستشفيات.
أرسل تعليقك