بقلم: مأمون فندي
«سأستغل الفرصة لأتحدث عن شباب وشابات قد يأخذ أحدهم مكاني اليوم لأذكرهم أن الكتابة التي تستحق العناء هي الكتابة عن القلب الإنساني في صراعه مع نفسه، وتلك هي مادة الأدب الجيد»، من خطاب وليم فوكنر وهو يتسلم جائزة نوبل للآداب.
عندما نتحدث عن مستقبل الكتابة، فبالضرورة نعني أن لها ماضياً تقارن به أو تستشرف العالم من على كتفيه، ونعني بالضرورة أيضاً القلق على حاضرها. وعندما أقول
«الكتابة بالعربي» فأقصد المعنيين، أي الكتابة باللغة العربية في العالم العربي، وأعني أيضاً «بالعربي» بالمعنى الدارج، أي بصراحة ووضوح.
تأتي هذه التأملات استجابة لعنوان منتدى دبي للصحافة هذا العام والذي سأحل ضيفاً عليه في الفترة من 26 إلى 28 من هذا الشهر، وهو واقع الإعلام العربي ومستقبله.
لن أتناول الصورة الكبيرة للإعلام لأنها ببساطة مساحة واسعة لا يستطيع فرد واحد الإلمام بها كلها، كما أنه ليس من المفيد بالنسبة للقارئ أن يغرق في التعميم، لهذا فضلت الحديث عن مستقبل الكتابة والتي هي الأصل، فالمحتوى «البصري» للتلفزيون أو «السمعي» للإذاعة هو في النهاية عجين خميرته الكتابة.
ورغم وجود نفر من الكتاب يستحقون هذا «المسمى»، فإن المشكلة برمتها ليس الكاتب المحدود بقدر ما هو جو الكتابة ومادتها والقيم الحاكمة لنقدها وفرزها أو القيم التي ينطلق منها الكاتب، فالقوس الأخلاقي للعالم طويل، كما أشار مارتن لوثر كنغ في خطابه الأشهر، ولكن هذا القوس في النهاية ينحى باتجاه العدالة. وأخشى أن هذا القوس في قيم كتابنا الجدد لا ينحى صوب هذا الاتجاه إلا ما ندر. وهذا أمر يقلقني ليس لنفسي، فأنا في الخمسين من عمري الآن، وأتجه صوب الناحية الأخرى،
ولكن قلقي على أجيال شابة قد تظن أن ما تقرأه منطلقاً من قيم جديدة، أو يستحق التوقف عنه والتأمل في مغزاه، وظني أن في هذا إجحافاً وظلماً لأجيال لا نعرفها، وإن تعودت هي على قراءة أو سماع ما يكتب ويقال اليوم فهي بكل تأكيد لن تعرفنا.
الكتابة أو الآداب بمعناها الواسع كما قال فوكنر مادتها الإنسان وهو في صراع مع ذاته من أجل إعلاء قيمته كإنسان يستحق تلك الروح التي تسكنه وإلا كيف «كرمنا بني آدم» على العالمين ؟
تكريم الإنسان يبدأ بالتأمل في ذاته وتلمس المساحة المشاعرية التي تخلق الجسر بينه وبين أخيه الإنسان. وهنا تكون معاناة الإنسان على إطلاقها، صراعه الداخلي والخارجي، هو مادة الكتابة. نصفق للأدب الجيد بحرارة لأننا نعرفه، لأنه يشبه معاناتنا ويشبه ما تعرضنا له من ظلم في نقل حقائق أساسية عنا نحسها حتى لو لم يكن لدى بعضنا القدرة على التعبير عنها.
علينا جميعاً تذكر أن من ندينهم هم نتاج بيئتنا وثقافتنا، فبالقدر الذي هم فيه سبب بلاء قادم، إلا أنهم ضحية لبيئة قبلنا العيش فيها من دون رغبة أو إرادة لتغييرها،
فالكتابة الغثة تنتشر في غياب المعايير الحاكمة لما يجب أن تطلع عليه العامة.
لا أرى أن للكتابة مستقبلاً إذا كان جل حاضرها مفرغاً من المعايير الموضوعية الحاكمة، رغم وجود قليل من الجزر أو الواحات المتباعدة التي يحاول البعض أن ينحت فيها خليطاً من القيم والحرفية، وكل ما أتمناه أن تكون تلك الجزر أو تلك الواحات أكثر قرباً.
أرسل تعليقك