من كان راغباً في خفض وزنه، فليركب أوّل طائرة إلى كاراكاس. هذه ليست دعاية لفعاليّة أنظمة «الريجيم» في فنزويلّا. إنّها إدانة.
ففي ذاك البلد الغنيّ بالنفط، خسر المواطن الفنزويلّيّ المتوسّط، العام الماضي، 9 كيلوغرامات من وزنه. أضافت «فاينانشال تايمز» المعروفة برصانتها، أنّ اللاجئين يتدفّقون على البرازيل وكولومبيا. ففضلاً عن الجوع، وتراجع الواردات من الموادّ الغذائيّة بنسبة تفوق الـ70 في المئة، يدفع انهيار النظام الصحّيّ الأمّهات الحوامل إلى عبور الحدود للولادة.
إلى ذلك، صارت فنزويلّا محطّة عبور أساسيّة للكوكايين المهرّب إلى أفريقيا ومنها إلى أوروبا. لقد اجتمع في رزمة واحدة تضخّم فلكيّ وفساد مستشرٍ وركود يقضم الاقتصاد، معطوفاً على نقص الموادّ الغذائيّة.
تراجع قدرة النظام على ممارسة الرشوة، عبر الاستعانة بالريوع النفطيّة، زاد في الاحتقان. منذ نيسان (إبريل) تتوالى تظاهرات الاحتجاج وإضراباته. عشرات القتلى سقطوا. صدامات الشوارع باتت يوميّة بين المتظاهرين ورجال الأمن ومعهم زعران السلطة. الرهان يتزايد على انضمام أبناء الطبقات الأفقر، الذين فقدوا ما كانت تدرّه عليهم الرشوة الشافيزيّة، إلى الطبقة الوسطى المعارضة.
الرئيس نيكولاس مادورو لا يتنازل ولا يُجري انتخابات عامّة. هذا الاستئثار بالسلطة، على رغم كلّ شيء، له سوابقه ومقدّماته: في 1999، حين أعاد هوغو شافيز كتابة الدستور، تكهّن بأنّ دستوره الجديد سيعيش «قروناً». لكنّ خليفته مادورو الذي طالب بدستور جديد بدل ذاك الجديد!، دعا أيضاً إلى إنشاء «جمعيّة شعبيّة» تكون سلطة عليا لا حاجة معها إلى انتخابات أو أحزاب. إذاً، في وسع هذه «الجمعيّة» أن تحكم إلى الأبد.
أمام هذه المصاعب وهذا التزمّت، يبقى «الحلّ» الذي تظهر عليه بصمات كوريا الشماليّة و «حزب الله» اللبنانيّ: صراخاً عن المؤامرة الأميركيّة لإسقاط النظام، وما نقلته وكالة «رويترز» عن «وثيقة عسكريّة» توضح «أنّ فنزويلّا تمتلك خمسة آلاف صاروخ أرض – جوّ تُطلَق من الكتف، وهي من صنع روسيا». إذاً، لا تقربوا من ذاك البلد. إنّه مخيف.
فنزويلّا لم تفتك بها حرب أهليّة لكي تصبح ما أصبحته. فتكت بها اشتراكيّة شافيز ومادورو، أي ما وصفته نظريّة «المراحل الخمس» الستالينيّة بأنّه الطور الأعلى للتطوّر الإنسانيّ. على أرض الواقع، كانت تلك الاشتراكيّة أقصر الطرق إلى صوملة فنزويلّا.
النتيجة البائسة التي انتهت إليها تجربة شافيز – مادورو سبب آخر للشكّ في رجاحة اليسار الشعبويّ عندنا وفي العالم. عندنا: صارت فنزويلّا تلك قلعة إسناد للممانعة والمقاومة... في العالم: صارت من قلاع التصدّي للإمبرياليّة الأميركيّة. في الحالتين، هي قلعة من قشّ.
والحال أنّ اليسار يُكثر من استخدام «النقد الذاتيّ»، وهو تقليد ربّما استُلهم من «مِيا كولبا» (إنّه ذنبي) اللاتينيّة والكنسيّة. لكنّ اليسار يستخدم هذا التقليد أكثر ما يستخدمه في معرض الاعتذار عن مخالفة القائد والقيادة. فالمخالف، إذ يعترف ويتراجع، يجدّد انضواءه في القطيع ووقوفه وراء التيس. لقد انهار خلال سنة واحدة أكثر من عشرة أنظمة في أوروبا الوسطى والشرقيّة. كلّها كانت اشتراكيّة، وكلّها جاء سقوطها بعد سقوط الشقيق السوفياتيّ الأكبر. النقد الذاتيّ كان قليلاً جدّاً، وكان لا يُقارَن قياساً بالكوارث الحاصلة. بعض هذا النقد الذاتيّ القليل أكّد أنّ دول المنظومة الاشتراكيّة افتقرت إلى الديموقراطيّة، وهو ما أدّى إلى إسقاطها.
لكنّ الأخيرة لو كانت ديموقراطيّة، لسقطت قبل عشرات السنين على تاريخ سقوطها الفعليّ. ثمّ إنّ هذا النقد الذاتيّ يهين الاشتراكيّة والديموقراطيّة معاً: الأولى يعلنها ناقصةً لا تكتمل بذاتها، بل تلزمها الديموقراطيّة، والثانية يتعامل معها كأنّها زائدة يمكن إلصاقها بنظام يتحكّم بالاقتصاد إنتاجاً وتوزيعاً، وهكذا تُحلّ المشكلة.
في أيّة حال، يمكن اليساريّين أن يعوّضوا جزئيّاً ما فاتهم حيال أوروبا بممارسة بعض النقد الذاتيّ في شأن الفضيحة الفنزويلّيّة وتراث شافيز. ذلك أجدى من الاتّكال الكاذب والكسول على ثنائيّ «الصواريخ» و «المؤامرة الأميركيّة». هذا كي لا يمضي وزن العقول في الانخفاض، بعد الانخفاض الذي ألمّ بوزن الأجسام.
أرسل تعليقك