بقلم / حازم صاغية
(إلى الزميلة ديانا مقلّد)
إذا كانت الطائفة أباً يحمي، فإنّ بين اللبنانيّين أيتاماً بلا حماية. هم ليسوا كثيرين، وليسوا فاعلاً سياسيّاً مؤثّراً، لكنّ ضمور الدولة يحرمهم الحماية الممكنة الوحيدة في غابة الطوائف وتوحّشها. بعض الطوائف يتوحّش بالسلاح. بعضها بالرأي المقدّس. بعضها بـ «المونة» البالغة على دولة ضعيفة مستضعفة. التكفير لا يكاد يستريح قليلاً حتّى يضرب التخوين، والعكس بالعكس. هؤلاء القلّة، ملح لبنان، عزّلٌ أمام السكّينين.
عدد من القناعات البسيطة يجمع بين هؤلاء الأيتام: أنّهم يريدون بلداً مستقرّاً بلا سلاح، ما خلا سلاح الدولة. ويطمحون إلى وطن يحكمه القانون، بلا محرّمات تكبح خياراتهم الحرّة في السياسة كما في الثقافة والاجتماع والجنس. هم لا ينظرون بعين كبيرة إلى الأقطاب السياسيّين ورجال الدين و «علمائه»، ولا إلى نجوم الإدارة والمصارف والإعلام في هذا البلد، لكنّهم يتمسّكون بالحياة البرلمانيّة على فسادها، وباقتصاد السوق على إجحافاته، وبالحرّيّات الإعلاميّة والحزبيّة والنقابيّة على قصورها. ذاك أنّ القدرة على التصحيح لا تتوفّر إلّا في مناخ الحرّيّة المصحوبة بالأمن والاستقرار ونزع السلاح.
إنّهم يطمحون إلى اللبنانيّ الفرد، اللبنانيّ المواطن، حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات. حيث يتساوى الرجل والمرأة، وأصحاب الخيارات الأيديولوجيّة والممارسات الجنسيّة على أنواعها الكثيرة. إنّهم يطمحون إلى اللبنانيّ الحرّ الذي يستطيع أن يقول ويعتقد ويمارس ما يشاء، شرط أن لا يعتدي على حقّ غيره في أن يقول ويعتقد ويمارس. يطمحون إلى اللبنانيّ الحرّ الذي قد يريد الحرب، وهذا حقّه، وقد يريد السلم، وهذا أيضاً حقّه... لكنّه يسلّم بأن الدولة، عبر سلطاتها المنتخبة، الطرفُ الأوحد الذي يقرّر الحرب والسلم. واللبنانيّ لا يكون حرّاً إن صودر قراره في مسائل بديهيّة جدّاً، كحقّه في استخدام جسده، أو حقّه في أن يرى بعينيه هو، وأن يقول بلسانه هو، ما يرى.
وغريبٌ أن يكون الأفراد الأكثر راديكاليّة في المطالبة بالدولة والقانون هم الأضعف والأكثر تعرّضاً للطعن إمّا في وطنيّتهم أو في أخلاقهم، أو في الأمرين معاً. إنّ أنصار الدولة الجذريّين هم المعارضون الجذريّون في لبنان. هذه مفارقة المفارقات.
«القامات الكبيرة» و «الطوائف الكريمة» ليست من قاموس هؤلاء الأيتام. والوطن الرومنطيقيّ الخالد المستوحى من القرية، أو من الحنين إليها، والذي تهلّ رايته «على الريح»، ليس وطنهم. عيونهم شاخصة إلى وطن أكثر تقدّماً، أكثر مدينيّة وتمدّناً، أقلّ عنفاً ومنعاً وتحريماً وتكفيراً وتخويناً، وبالطبع أقلّ عنصريّة حيال الوافد والغريب واللاجئ.
الأوطان كلّها، لكنْ خصوصاً الوطن اللبنانيّ البالغ التعدّد، لا تحتمل الأيديولوجيّات الحاكمة. لا تحتمل وجود من يملك الصواب، في السياسة أو في الفنّ أو في الجنس، بحيث يفرض صوابه المزعوم على سواه.
لقد أوجدت، في السنوات القليلة الماضية، وسائط الإعلام الاجتماعيّ حيّزاً مشتركاً يلتقي فيه الأيتام بالآباء المكتنزين أبوّةً. يلتقي فيه الذين يريدون أن يكونوا أحراراً، يتساءلون ويشكّون ويجهرون ويحتارون ويجرّبون، بالذين يريدون أن يبقوهم عبيداً، أو، في أحسن الأحوال، أن يردّوهم إلى بيوت الطاعة أبناءً لهم خانعين: أبناءً لما ورثوه هم من أفكار وأقوال وممارسات. أبناءً للرقابات الأخلاقيّة والدينيّة والفنّيّة والسينمائيّة، أبناءً للرقابات النضاليّة حيث لا يعلو صوت المعركة الذي لا يعلو صوت عليه!
واللقاء هذا بين دمقرطة بعيدة وفّرها الإعلام الاجتماعيّ وبين ميل أبويّ إلى الزجر والإخضاع يظلّ موضوعاً للتأمّل. لكنْ يغلب الظنّ بأنّ تلك الدمقرطة نفسها استثارت ذاك الميل إلى الزجر وأضافت إلى أسباب قوّته سبباً آخر. فالأب خائف، مع أنّه حاكم. أمّا اليتيم، المتروك عارياً من كلّ حماية، فحرّ. إنّه لا يملك أباً يخشى غضبه أو يخاف أن تهتزّ صورته. إنّه حرّ يتجرّأ. هكذا سوف يبقى.
أرسل تعليقك