كان العالم كله في أبوظبي. لم تكن الجائزة الكبرى، وهي المرحلة الأخيرة من بطولة العالم لسباقات السيارات (فورومولا وان) سوى مناسبة أخرى كي تتأكد العلاقة بين دولة الإمارات العربية المتحدة من جهة، وثقافة الحياة والفرح والبهجة والانتماء إلى العالم المتحضّر من جهة أخرى.
يشعر اللبناني عندما يحضر سباق الجائزة الكبرى لأبوظبي، التي استضافتها حلبة جزيرة ياس، بغصّة. هذا ليس عائدا إلى وجود سيّاح وزوار ومقيمين في دولة الإمارات ينتمون إلى 148 جنسية من مختلف أنحاء العالم فحسب، بل هو عائد أيضا إلى القدرة التي تمتلكها دولة شابة على تنظيم مثل هذا النوع من النشاطات في أجواء آمنة من دون أيّ حادث يذكر. لا وجود لتجاوزات من أيّ نوع في خلال سباق الجائزة الكبرى. كلّ ما هناك أن الناس في عيد مستمر، يستمرّ أيّام الجمعة والسبت والأحد. كلّ خطوة تبدو مدروسة، بما في ذلك النشاطات الترفيهية التي تشمل حفلات موسيقية وغنائية لنجوم كبار.
لا تزال دولة الإمارات دولة شابة، نسبيا. استقلت قبل ستة وأربعين عاما في مثل هذه الأيام من العام 1971. كان أقل من نصف قرن كافيا لإثبات أن الإمارات استثناء على كلّ صعيد، بما في ذلك تحوّلها إلى دولة تلعب دورا في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدفاع عنه. تجاوز حلم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حدود الإمارات. صار فكر التسامح والتصالح مع العصر، ومع الذات أولا، ضرورة لكل دولة من دول المنطقة تريد بالفعل مواجهة الإرهاب والتطرّف وفكر الإخوان المسلمين الذي غزا البرامج التعليمية والإعلام في أكثر من مكان وفي غير اتّجاه.
ليس تنظيم حدث كبير مثل الجائزة الكبرى لأبوظبي حدثا عاديا. لا بدّ للدولة المنظمة من توفير شروط معينة وصارمة. في مقدّم هذه الشروط تأتي الحلبة ومواصفاتها، ثم الأمن والأمان وحسن التنظيم الذي يحتاج إلى فريق كبير من المحترفين والمتطوعين. كان هناك شعور بالفخر لدى اللبناني عندما يرى مواطنا إماراتيا متطوعا يرشد الزائر إلى المكان الذي عليه أن يتوجه إليه في حلبة مرسى ياس المترامية الأطراف التي يتوسطها ميناء سياحي فيه مئات اليخوت.
أعطى سباق الجائزة الكبرى لأبوظبي للسنة 2017 فكرة عن دولة حديثة وفتيّة قادرة على أن تكون لاعبا إقليميا أساسيا وفعّالا على غير صعيد. لا تخوض الإمارات معركة محاربة الإرهاب والدفاع عن مجتمعها بغية أن يكون في منأى عن الفكر المتطرّف فقط. هناك ذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير في بلد يقوم بواجبه في التصدّي عسكريا للخطر الآتي من اليمن والذي تقف خلفه إيران. ليس سرّا أن قوات إماراتية تقاتل خارج حدود الدولة. هناك شهداء سقطوا غدرا في مواجهات عدّة.
لكن زائر الإمارات لا يشعر بأي تأثير لذلك على حدث مثل جائزة أبوظبي. على العكس من ذلك، خرج سلاح الجوّ الإماراتي غير مرّة وأدى عروضا أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها رائعة.
أظهرت تجربة الإمارات من خلال مثل هذه العروض الجويّة أن دولة حديثة تُبنى لبنة لبنة، وأن بناء الدول الحديثة لا يمكن أن يكون من دون تضحيات من الشعب الإماراتي الذي يبدو أكثر من مقتنع بأّن عليه الدفاع عن تجربة فريدة من نوعها في المنطقة.
ليس صدفة أن متحف اللوفر فتح أبوابه قبل أيّام قليلة من موعد الجائزة الكبرى لأبوظبي. لم تحُل المعرفة المسبقة للسائق الذي حاز على لقب بطولة العالم قبل السباق الأخير دون مجيء الزوّار إلى أبوظبي لحضور سباق السيارات، والمرور على اللوفر في الوقت ذاته. كان الإقبال كبيرا على جزيرة ياس وكان معظم الذين جاؤوا من أوروبا يتطلّعون أيضا إلى زيارة متحف اللوفر الذي نقل بعض مقتنياته إلى أبوظبي…
نعم، كان العالم كلّه في أبوظبي. كانت الفنادق مليئة وكان كلّ زائر يتصرّف بالطريقة التي تروق له، من دون أن يعني ذلك أي إزعاج للمواطن العادي الذي بات يمتلك ثقافة خاصة به تقوم على الثقة بالذات. إنّها الثقافة التي زرعها الشيخ زايد الذي حوّل أبوظبي إلى مساحة خضراء. خلقت هذه الثقافة انفتاحا كبيرا لدى المواطن الإماراتي وأكسبته مناعة تسمح له بالمحافظة على التقاليد الخاصة بالمجتمع، وهي تقاليد عربية أصيلة مرتبطة بالإسلام كدين يقول بالانفتاح على الآخر والاعتراف به من دون أيّ عقد من أيّ نوع.
عرفت الإمارات كيف تدافع عن نفسها في وجه العواصف الإقليمية. تسلّحت بالحكمة قبل أيّ شيء آخر. كانت حكمة الشيخ زايد وراء قيام الاتحاد الذي يضمّ سبع إمارات تعيش في ما بينها في أجواء من الثقة المتبادلة والمصلحة المشتركة.
لم يكن ينقص بلدا مثل لبنان شيء كي ينظّم بدوره سباقا مثل الجائزة الكبرى لأبوظبي. الفارق أن لبنان لم يعرف كيف يحمي نفسه ومجتمعه في مراحل كان عليه فيها التنبّه إلى خطورة ترك الخارج يتدخّل في شؤونه.
كانت جريمة ترك الفلسطينيين يتسلّحون ويقيمون دولة داخل الدولة كبرى الجرائم التي دفع اللبنانيون وما زالوا يدفعون ثمنها إلى اليوم. ذهبت “جمهورية الفاكهاني” التي كان ياسر عرفات يفتخر بأنّه أقامها في لبنان، وبقيت دويلة “حزب الله” التي صارت تنافس الدولة اللبنانية، وثمّة من يؤكد أنّها أقوى منها.
بات على الحكومة اللبنانية، برئاسة سعد الحريري، خوض معارك يومية لتثبت أن لبنان لا يزال دولة قابلة للحياة، وأن اللبنانيين ما زالوا يقاومون دويلة “حزب الله” التي تقف خلفها إيران.
يخوض اللبنانيون معارك يومية من أجل تأكيد أن بلدهم ما زال متعلّقا بثقافة الحياة ومرتبطا بها، وأن لا أفق لثقافة الموت والبؤس والإفقار التي تسعى إيران إلى فرضها على الوطن الصغير من أجل تحويله مجرّد مستعمرة. في الواقع، يخوض لبنان عمليا معركة تأكيد أنّه لا يزال دولة عربية، وأنه جزء لا يتجزّأ من محيطه العربي.
من خلال كلّ ذلك الفرح الذي يشاهده زائر أبوظبي، يتبيّن أنّ الوضع العربي ليس ميؤوسا منه وذلك على الرغم من المآسي التي تتعرّض لها دولة كبيرة مثل مصر. هناك في العالم العربي من لا يزال يؤمن بإمكان تغيير المجتمع نحو الأفضل وتمكينه من امتلاك مناعة في مواجهة كلّ أنواع التطرّف. لا عيب في تسمية الأشياء بأسمائها.
لا عيب خصوصا في الإيمان بضرورة نشر ثقافة الحياة والابتعاد عن كلّ ما من شأنه المسّ بهذه الثقافة. ليس عيبا أخيرا في الاستعانة بكلّ ما يبعد الطفل، منذ دخوله المدرسة، عن المناهج التعليمية التي تفرضها جماعة الإخوان، أولئك الذين يروجون لثقافة “داعش”، وهي ثقافة تعتمدها ميليشيات سنّية وأخرى شيعية.
ثمّة فارق بين من يريد أن يتقدّم ويتطوّر، وبين من يريد البقاء في أسر الماضي بدل الاستفادة من تجاربه وتفادي ما هو سيء منها. من حسن الحظّ أنه صار هناك نموذج يمكن الاقتداء به في المنطقة العربية. لو لم يكن هذا النموذج ناجحا، لما كانت الجائزة الكبرى لأبوظبي، ولما كان كلّ هذا العالم الفرح في تلك المساحة الصغيرة.
أرسل تعليقك