ليس في الإمكان أفضل مما كان. صار للبنان رئيس للجمهورية، هو العماد ميشال عون، كما صار لديه رئيس مختلف لمجلس الوزراء هو سعد الحريري يعمل على تشكيل حكومة جديدة تساعد في العودة إلى الأيّام التي كان يشهد فيها البلد نموّا اقتصاديا. ليس سرّا أن النمو الاقتصادي في لبنان والازدهار ارتبطا باسم الحسعد ريري، وقبل ذلك بحكومات الرئيس رفيق الحريري، الذي معروف من اغتاله ومن غطّى الجريمة التي استهدفت لبنان قبل أي شيء آخر.
هل في الإمكان الكلام عن انطلاقة جديدة للبنان اعتمادا على وجود عهد جديد وتفاهمات قائمة على حماية البلد من “الحرائق” التي تشهدها المنطقة؟ الأكيد أن الشرط الأوّل لحماية البلد يكون في فهم ما يدور في سوريا من منطلق أن عملية تهجير الشعب السوري من أرضه، وهي عملية تترافق مع إجراء تغييرات ذات طابع ديموغرافي وتدمير للمدن السورية، لا تقلّ بشاعة عمّا جرى في فلسطين في مرحلة ما بعد وعد بلفور. من يشارك في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري والتي يتعرّض لها أيضا قسم من الشعب العراقي، آخر من يحقّ له الكلام عن وعد بلفور. بكلام أوضح، لا يمكن الركون إلى من يرفض الاعتراف بالمأساة السورية التي لا تقلّ فظاعة عمّا تعرض له الشعب الفلسطيني منذ صدور وعد بلفور قبل مئة عام.
لعلّ أهم ما ميز المرحلة التي سبقت انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان مجيء موفد سعودي إلى بيروت هو تامر السبهان وزير الدولة لشؤون الخليج العربي. قام السبهان، الذي سبق له أن خدم في لبنان كملحق عسكري، بجولة على القيادات اللبنانية مؤكدا “مباركة” المملكة لانتخاب رئيس جديد للبنان. بعد انتخاب رئيس للجمهورية، اتصل الملك سلمان بن عبدالعزيز بالرئيس ميشال عون وهنّأه مؤكدا وقوف المملكة إلى جانب لبنان. كان ذلك تعبيرا عن الرغبة السعودية في دعم البلد وتجاوز كلّ شوائب الماضي القريب، بما في ذلك الحملات التي استهدفت المملكة انطلاقا من الأراضي اللبنانية. هذه حملات دأبت جهات معيّنة معروفة، على رأسها “حزب الله” وأبواقه، على القيام بها من أجل تأكيد أن لبنان صار تحت الوصاية الإيرانية لا أكثر، وأنّه ليس أكثر من قاعدة على المتوسط تُدار من طهران.
من شروط نجاح العهد الجديد إخراج لبنان من الوصاية الإيرانية بدءا بالاعتراف بأنّ لا مصلحة لأيّ جهة لبنانية في التورط في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. على العكـس من ذلك، ثمّة حاجة إلى استخدام الدعم العربي والدولي كي يستعيد البلد عافيته بعيدا عن الشعارات الفارغة التي لا تأخذ في الاعتبار أنّ التدخل في الحرب السورية دعما لنظام أقلّوي مرفوض من شعبه يشكّل أكبر خدمة لإسرائيل ولنظرتها إلى مستقبل الشرق الأوسط.
لا يمكن المتاجرة بالقضية الفلسطينية من أجل التغطية على المأساة السورية التي باتت أسوأ من مأساة فلسطين. لا يمكن العودة إلى وعد بلفور لتبرير الدخول في لعبة إثارة الغرائز المذهبية التي هي في أساس المشروع التوسّعي الإيراني القائم على نظرية “تصدير الثورة”.
يستطيع لبنان حماية نفسه بوسائل مختلفة في طليعتها الابتعاد عن الحرائق السورية بدل المشاركة في إشعالها. ذلك هو منطق الأمور. كلّ ما عداه الدخول في لعبة لا طائل منها، بما في ذلك لعبة “سوريا المفيدة” التي لها امتداداتها في الأراضي اللبنانية والتي في أساسها تطويق دمشق بحزام ذي لون معيّن، عبر شراء الأراضي وتوطين موالين لإيران في مناطق معيّنة داخل العاصمة السورية وفي محيطها المباشر.
مرّة أخرى، يخوض لبنان معركة دفاع عن النفس. إنّها في الواقع معركة دفاع عن ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت. تعني ثقافة الحياة أوّل ما تعني الابتعاد عن كلّ ما من شأنه عزل لبنان عن محيطه العربي. في النهاية، إن عملية العزل هذه كانت جزءا من الحملة على ثقافة الحياة في لبنان. تقوم هذه الحملة على إفقار اللبنانيين ونشر البؤس في البلد، بدل خلق فرص عمل للشباب اللبناني الذي صار يبحث عن أي فرصة تمكّنه من الهجرة.
ليس بالاستنجاد بوعد بلفور، يمكن أن يقتنع اللبناني بأنّ الشعب الفلسطيني يعيش مأساة كبيرة بدأت بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وصولا إلى رفض العرب قرار التقسيم الذي مهّد لنكبة 1948، ثمّ لهزيمة 1967. يمكن الدخول في نقاش طويل في شأن وعد بلفور والظروف التي أحاطت به، خصوصا أنّه ترافق مع اتفاق سايكس – بيكو البريطاني – الفرنسي، الذي كانت روسيا القيصرية طرفا فيه، لولا أن الثورة البولشفية صرفتها عن المشاركة وقتذاك في اقتسام تركة الإمبراطورية العثمانية.
تكون حماية لبنان بالنأي بالنفس فعلا عن المأساة السورية. هناك “حزب الله” الذي يشارك في صنع تلك المأساة بحجة أنه يقاتل “التكفيريين” في حين أنّه يقاتل عمليا الشعب السوري الذي انتفض على نظام سعى دائما إلى استعباده لمصلحة أقلية احتكرت السلطة والثروة. هل يعي الحزب ماذا يعني ذلك في المدى الطويل في بلد، صحيح أنه ممزق، لكنّ الصحيح أيضا أنّ الأكثرية الساحقة من مواطنيه من أهل السنّة.
لا مفرّ من تسمية الأشياء بأسمائها بعيدا عن المزايدات والشعارات المزيّفة التي تصلح لكلّ شيء باستثناء تغطية المأساة السورية بمأساة فلسطين. لا يمكن لمأساة تغطية مأساة أخرى. من يريد الخير للبنان واللبنانيين يبتعد عما يجري داخل سوريا ويساهم، في المقابل، في إنجاح مشروع الإنماء والإعمار في لبنان بعدما صار للبلد رئيس للجمهورية، وبدء الجهود من أجل تشكيل حكومة جديدة تضمّ عناصر قادرة على التصدي للأزمات التي تواجه المواطن يوميا مثل أزمة النفايات والكهرباء…
في نهاية المطاف، لا مفرّ، في المدى البعيد، من طرح سؤال في غاية الأهمّية: هل في الإمكان وضع حدّ للعزلة العربية التي يعيشها لبنان؟ فكّ العزلة سيكون بداية لاستعادة البلد عافيته بعد سدّ الفراغ الرئاسي. عدم فكّ هذه العزلة وبقاء لبنان بعيدا عن محيطه العربي يعني من دون أدنى شكّ أن البلد صار تحت الوصاية الإيرانية وأنّ هناك من يريد إفقاره وتهجير أهله وتوريطه، أكثر فأكثر، في الحروب الدائرة في سوريا كي لا تقوم له قيامة.
باختصار شديد، هل لبنان دولة عربية مستقلّة أم مجرد جرم يدور في الفلك الإيراني؟ على فكّ العزلة العربية للبنان يمكن بناء الكثير بعيدا عـن المتاجرة بالقضية الفلسطينية وهي متاجرة أتقنتها إيران في مزايـدتها على العرب في وقت تصبّ كلّ سياساتها على خدمة المشروع الصهيوني القائم على تشجيع كلّ ما من شأنه شرذمة المنطقة من منطلق طائفي ومذهبي.
أرسل تعليقك