بقلم/ جورج سمعان
الصراع على الحدود الشرقية والشمالية لسورية اختبار صعب لجميع المتصارعين في هذا البلد. إنه امتحان أول لسياسة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط. وامتحان أيضاً لقدرة الرئيس فلاديمير بوتين على تسويق مشروعه للتسوية أو التهدئة أقله في الظروف الحالية. ويشكل مفترق طرق لسياسات اللاعبين الآخرين. من إيران وتركيا إلى إسرائيل والأردن وقوى عربية أخرى قريبة وبعيدة، فضلاً عن الكرد عموماً. الدينامية التي رفعت وتيرة هذه الحرب انطلاقُ السباق المحموم لوراثة تركة «داعش»، مع اقتراب هزيمته في الموصل وبعدها في الرقة. وكذلك قرار أطراف لقاءات آستانة إقامة «مناطق خفض التوتر»، أو «مناطق آمنة». فقد فتح القرار شهية جميع المتصارعين على تقاسم خريطة بلاد الشام، في غياب أي تفاهم بين الكبار. وهناك أيضاً قرار قمم الرياض الثلاث بمواجهة التمدد الإيراني في الأقليم. وهو قرار يسير بالتوازي مع الحرب على الإرهاب، بعدما ساوت واشنطن بين الجمهورية الإسلامية والتنظيمات «الجهادية». وكلها تطورات لا تبشر بقرب تسوية سياسية بقدر ما تضيف مزيداً من الزيت والتعقيدات إلى الحروب المستعرة والمستنقع المفتوح. وتوسع دائرة الترابط بين أزمات المشرق، من حدود العراق الشرقية إلى شاطىء المتوسط. وقد تكرس تقسيماً غير معلن لبلاد الشام لا يقف عند حدودها وحدها. وهو ما تخوف منه سيد الكرملين.
كرست قمم الرياض الثلاث رغبة واشنطن وحلفائها التقليديين في جمع خصوم دمشق وطهران في حلف واحد جديد لاجتثاث الإرهاب ومصادر تمويله، ومواجهة الهلال الإيراني وكسره. ولا أحد يجهل أن السيطرة على المنطقة الشرقية لسورية تحقق جملة أهداف استراتيجية، على رأسها قطع خطوط التواصل البري لإيران عبر الحدود مع العراق حتى شاطىء المتوسط، وإكمال الطوق حول إسرائيل من جنوب لبنان إلى الجولان. كما أن المنطقة غنية بالنفط تعزز موقع الممسكين بها في مواجهة الآخرين، اقتصادياً وعسكرياً. وواضح من التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة في التنف ومحيطها، وتعزيز القدرات التسليحية لـ «قوات سورية الديموقراطية» وفصائل عربية أخرى في الجزيرة السورية، أن واشنطن تجهد لمنع قوات النظام في دمشق والميليشيات التي يرعاها «الحرس الثوري» من الاقتراب من هذه المنطقة. وهو هدف لا يريح موسكو التي تحرص على إعادة تأهيل الجيش السوري وتقديمه القوة الوحيدة القادرة على ضمان أي اتفاقات. فضلاً عن أن الهدفين، الأميركي والروسي،لا يلتقيان أبداً مع أهداف طهران الراغبة في المرابطة على حدود الجولان، وبقاء ممراتها البرية مفتوحة حتى بيروت مروراً بدمشق. ويضيرها تفاهم الدولتين الكبريين على تكريس مناطق خالية من الميليشيات.
لن يكون سهلاً على إدارة ترامب أن تحكم إقفال الحدود العراقية - السورية. اعتمادها على «وحدات حماية الشعب» قد لا يكون كافياً ومضموناً، ولن ينتهي بلا ثمن يتقاضاه الكرد. لقد حذر هؤلاء «الحشد الشعبي» العراقي من تجاوز الحدود عبر أراضيهم. لكنهم هم القريبون من «حزب العمال الكردستاني» سيجدون أنفسهم أمام امتحان صعب إذا اندلعت مواجهة واسعة بين قوات الحزب و»البيشمركة» في منطقة سنجار. علماً أن قوات الحزب تقيم تنسيقاً متيناً مع إيران وميليشيات «الحشد». فيما يرتبط إقليم كردستان بمعاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة، وستجد قيادته نفسها أمام امتحان صعب على شفير مواجهة لا مفر منها. وقد حذرت أخيراً من أنها لن تتساهل في أمن المناطق التي تحررت من الإرهابيين. كما أن تركيا يقلقها تمدد «حزب العمال» من شرقها إلى شمال العراق فشمال شرق سورية. وتخشى أن يحكم هذا الطوق على حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية. لذلك لا تكف عن الاحتجاج على انخراط البنتاغون في تسليح «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من الكرد. وإذا كانت واشنطن ستستخدم الكرد في حربها على «داعش» من دون دعم تطلعاتهم إلى إقامة منطقة حكم ذاتي كما هي حال كرد العراق، فإنهم لن يترددوا في التعاون مع قوى أخرى. علماً أنهم أخلوا في السابق مواقع لهم للقوات النظامية السورية. بل هم يتحدثون عن رغبتهم في فتح ممر يربط مناطقهم بساحل المتوسط. فهل يمكن الإدارة الأميركية أن تتجاهل كلفة الاعتماد عليهم وإدارة الظهر لأنقرة، وهي حليف تعتمد عليه في خطة كسر الهلال الإيراني؟
أبعد من ذلك، تركيا التي تتعمد الابتعاد عن حلفائها التاريخين في الغرب، لم تتورع عن التهديد بقصف القوات الأميركية إذا واصلت دعمها للكرد شمال سورية. ولم تبد حتى الآن رغبة حقيقية في اللجوء إلى مجموعات تركمانية أو «حشود سنية» في العراق لمقارعة الميليشيات التي ترعاها إيران سواء في سورية أو العراق. تعلي الصوت في وجه التمدد الفارسي لكنها تترجم ذلك في الجلوس إلى طاولة واحدة مع ممثلي هذا التمدد في آستانة لتقرير مصير بلاد الشام. إنها ركن آخر في استراتيجية الرئيس ترامب قد لا يؤدي دوره المنتظر... لكنه سيجد نفسه بلا دور فاعل إذا سارت استراتيجيات الآخرين قدماً. كذلك لا يمكن واشنطن أن تعول كثيراً على نتائج الصراعات السياسية في العراق. يبدو شبه مستحيل أنخراط القوى والأحزاب الشيعية المستاءة من جارها الشرقي في جبهة تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية. حتى حكومة الرئيس حيدر العبادي لا يمكنها الذهاب بعيداً في ملاقاة واشنطن وسياساتها على حساب طهران. ولعل خير دليل على حدود قدرة بغداد على مقاومة نفوذ جارتها الشرقية، أن الأجواء والأراضي العراقية مفتوحة عملياً أمام طائرات الشحن والقوافل لنقل السلاح والعتاد من إيران إلى سورية ولبنان والعراق طبعاً. أضف إلى كل ذلك أن أي تفاهم بين واشنطن وموسكو لن يتيح للأخيرة المجازفة بخسارة حليفها في سورية. فهي تحتاج إلى ميليشياته على الأرض ما دام أنها لا ترغب في توسيع انخراط قواتها البرية. من هنا يبدو صعباً أن تتجاهل الحضور العميق لإيران في بلاد المشرق العربي. بل ستظل تفيد من هذا الحضور حتى دفع أميركا إلى الاعتراف بها قطباً دولياً له ما لها. ولا يغيب عن بال سيد الكرملين أن نجاح الأميركيين في ترسيخ سياستهم في بلاد الشام يقلل من قدرته على التقدم ببلاده نحو ترسيخ أقدامها قوة كبرى تنطلق من دمشق إلى الإقليم كله. لذلك يجهد إلى إرضاء تركيا من أجل إبعادها عن أحضان «الناتو». مثلما يجهد لتمتين علاقاته بمصر لحاجته إليها في ليبيا وشمال أفريقيا عموماً. وينتابه قلق عميق من صورة الود القائم بين الرئيسين ترامب وعبد الفتاح السيسي! يراوده طموح التفاهم مع الرئيس ترامب في المنطقة كلها، كما هي حال الأخير مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في شبه الجزيرة الكورية.
خوف روسيا من انزلاق اللعبة عن قواعدها المرسومة حتم عليها الزج بطائراتها إلى حدود المنطقة الشرقية في سورية. وقصفها فصائل تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج. وتقدم آلياتها وقواتها نحو جبهة الجنوب، على رغم المحادثات الديبلوماسية والعسكرية مع الأردنيين والأميركيين في عمان لتعريف «المنطقة الآمنة» جنوب سورية ورسم حدودها التي يفترض أن تشمل القنيطرة في الجولان حتى درعا وريفها. وتتهم موسكو «التحالف الدولي» والكرد بأنهم يسهلون لعناصر «داعش» الخروج من الرقة نحو دير الزور وتدمر. وكانت سابقاً عارضت وطهران ترك باب مفتوح لهم للخروج من غرب الموصل إلى الأراضي السورية عندما بدأت المعركة في اكتوبر الماضي. وهو ما دفعها أخيراً إلى التلويح باستخدام قوتها الجوية الضاربة لمنع وصول المجاهدين إلى ريف حمص وباديتها. ما تخشاه أن تكون المعركة الأكثر كلفة مع التنظيم الإرهابي في دير الزور. لذلك تسابق الأميركيين في مناطق شمال شرقي البادية، لئلا تكون المواجهة الحاسمة مع مقاتلي «دولة الخلافة» من مسؤوليتها وحلفائها بعد خروجهم من عاصمة الخلافة. وهي بذلك تجازف ربما بأخر أمل للتفاهم مع إدارة ترامب.
إضافة إلى هذا الهم، يجد الرئيس بوتين نفسه أمام خيارات صعبة على جبهة الجنوب. سيظل حريصاً على تفاهماته مع القيادة الأردنية خصوصاً في مجال التعاون الأمني والاستخباري الخاص بالمجموعات الإرهابية. كما أنه يحتاج إلى عمان باباً ومنطلقاً مساعداً إلى عواصم عربية أخرى، خليجية خصوصاً، لعلها تنحاز إلى مشروعه للتسوية في بلاد الشام. ومراعاة هذا الموقف للمملكة لا يروق بالتأكيد لحليفه الإيراني الساعي إلى الاقتراب من حدود الجولان والساعي إلى السيطرة على معابر سورية شرقاً وجنوباً. أما الأردنيون فلا يكتمون مخاوفهم من تسرب عناصر «داعش» جنوباً إذا أقفلت بوجههم سبل الفرار من شرق سورية. وهم يتذكرون اندساس مئات منهم في صفوف اللاجئين الذين أُوقفوا في مخيم الركبان السوري القريب من حدود المملكة، على رغم المناشدات الدولية بفتح الأبواب أمامهم. وقد أكد الملك عبد الله الثاني ورئيس الأركان أن القوات الأردنية لن تدخل الأراضي السورية. لكنها لن تسمح بتمركز إرهابيين أو عناصر تابعة للميليشيات الحليفة لإيران على حدودها الشمالية. قد لا تعارض في النهاية مرابطة قوات نظامية، ولكن ماذا لو أصرت واشنطن على رفض أي دور لهذه القوات؟ وإسرائيل بدورها ترفض اقتراب الميليشيات الإيرانية من منطقة الجولان المحتل. وهي تنتظر ترجمة ميدانية لمضمون اتصال هاتفي بين وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان ونظيره الروسي سيرغي شويغو، قالت إنه تناول امكان قيام المنطقة الآمنة جنوب سورية، «ترابط فيها قوات للنظام من دون الميليشيات». هذا الاصرار على استبعاد الميليشيات يقلق طهران مثلما تخشى موسكو أن يؤدي انصياعها إلى رغبات الجارين الجنوبيين لسورية إلى هز تحالفها مع الجمهورية الإسلامية.
حرب الحدود مستنقع يسعر الحرب في سورية، ويرسم خريطة جديدة على أنقاض ما بقي من خريطة «سايكس- بيكو». مثلما يطرح خيارات وسياسات مختلفة على جميع المتصارعين. والسؤال من سيخرج منهم منتصراً من هذا المستنقع؟
أرسل تعليقك