طلال سلمان
كشف رحيل صحافي القرن محمد حسنين هيكل، في جملة ما كشفه، خطورة غياب مصر عن دورها العربي الذي كان ـ تاريخياً ـ يتجاوز السياسة، بالأنظمة والأحزاب، إلى الحياة العامة العربية، الثقافية والأكاديمية والفنية، وبين عناوينها الصحافة.
كانت القاهرة، قبل السياسة وبعدها، عاصمة العرب بالمعاني والدلالات جميعاً... وكان لها، بالتالي، الدور الريادي. حتى في أيام مصر الملكية، كانت القاهرة أخطر منابع أو مصادر الثقافة. كانت مكتبة العرب وجامعتهم: طلائع المثقفين منها، أو فيها، على اختلاف توجهاتهم (يسار ـ يمين ـ عروبة ـ إقليمية ـ فرعونية ـ كيانية ـ هاشمية ـ وهابية) إلخ.
لذلك كان تمدد زعامتها ودورها القيادي، عربياً، مشروعاً، لم يناقشها فيه أحد على المستوى العربي، بمن في ذلك الأنظمة التي ناصبت جمال عبد الناصر العداء، خوفاً من تمدد تداعيات حركته الثورية إلى البلاد التي تُحكم بقمع التخلف، سواء باسم الدين أو القبيلة الأقوى أو الأكثر عدداً، أو بالاستناد إلى دعم قوى الاستعمار الذي كان ما زال يهيمن أو يؤثر على أوضاع معظم الدول العربية، في المشرق كما في المغرب.
كان كتاب العرب مصرياً، في الغالب الأعم. وكانت سينما العرب مصرية، والطرب العربي مصرياً، ولو مع اختراقات عراقية وسورية ولبنانية. بل إن أشهر مطربي الوطن العربي قد وصلوا إلى الجمهور العريض في ما بين المحيط والخليج عبر القاهرة بإذاعاتها العديدة وشاشتها المرئية التي كانت بين الأوائل عربياً، والأوسع انتشاراً وتأثيراً بالتأكيد. وبالتالي فإن الأغنية العربية ومعها الموسيقى تراثية أو حديثة كانت تصل إلى المستمع العربي عبر إذاعات القاهرة ثم عبر شاشتها المرئية.
أما اليوم فالكتاب العربي مطبعته، إلى حد كبير، لبنانية، ودار نشره خليجية، عموماً، بعنوان الإمارات العربية المتحدة (الشارقة وبعدها أبو ظبي والمعارض في دبي) ثم قطر وبعدها الكويت التي كانت سبّاقة فتراجعت أمام منافسيها الجدد.
وأما الصحافة العربية، اليوم، فهي خليجية عموماً، بعنوان سعودي ـ قطري، وكذلك شاشات التلفزيون فهي خليجية بعنوان قطري ـ سعودي («الجزيرة»، «العربية»..).
باختصار كانت القاهرة عاصمة القرار السياسي (والعسكري) الفكري (والإعلامي)، يسلّم لها العرب عموماً بهذا الدور، وإن ناكفتها بعض عواصم المشرق (بغداد بالدرجة الأولى، ودمشق ـ الحليف الصعب..) في حين تلتحف المملكة السعودية بالصمت، متحاشية الصدام، إلا حين يداهمها خطر التأثير عبر جوارها القريب (اليمن) مساندة ومشجعة (وممولة) منافسي القاهرة، عربياً.
وعندما تولى هيكل رئاسة تحرير «الأهرام» وحوّلها إلى مؤسسة إعلامية ـ ثقافية ـ سياسية خطيرة (بما أضافه إليها، بعد الزيادة الهائلة في الانتشار، «مركز الدراسات الاستراتيجية» ثم المطبوعات المتعددة وأخطرها، فكرياً، «الطليعة»..)، فإنه إنما كان يرتفع بالصحافة إلى المستوى اللائق بدورها، قبل السياسة وبعدها، في مجالات الثقافة والإبداع.. كأن يصدر ملحقها الأسبوعي، يوم الجمعة، وفيه إضافة إلى ما يكتبه بتأثيره السياسي، مساحة واسعة للثقافة بكبار المبدعين توفيق الحكيم والحسين فوزي ولويس عوض وصلاح عبد الصبور وآخرين، في حين يبدع صلاح جاهين عبر رسومه الكاريكاتورية (وهو الآتي من مجلة «صباح الخير» التي أصدرها أحمد بهاء الدين من دار «روز اليوسف» لمخاطبة الشباب. هذا قبل أن ينتقل بهاء إلى دار الهلال فينفخ فيها الروح ويجددها مكرماً تاريخها وموسعاً دائرة انتشار مطبوعاتها وكتبها جميعاً).
هذا لا يعني، إطلاقاً، إلغاء دور الآخرين من كبار الصحافيين في مصر، وفي طليعتهم مصطفى وعلي أمين في الأخبار وأخبار اليوم، وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم في روز اليوسف ثم صباح الخير.
الحديث عن الصحافة هنا، حديث في السياسة وليس خارجها.. وبالتأكيد فإن في البلاد العربية (وامتدادها في لندن) مؤسسات صحافية غنية إلى حد الترف، فأصحابها أمراء أبناء ملوك، أو أمراء صيّروا أنفسهم ملوكاً، يضعون في خدمة المطبوعات التي يصدرونها ملايين الملايين من الدولارات، لكن توزيعها ما زال بائساً (لا يتناسب بطبيعة الحال مع الكلفة ومع الرفاه الذي يعيشه العاملون فيها في المنافي الفخمة).
كانت مصر تحتل مكانها الشرعي في القيادة العربية، بجدارة. فإلى جانب السياسة كانت جامعة العرب (وأجيال المتخرجين الأوائل في الجزيرة العربية، والخليج العربي، خاصة تلقوا العلم فيها إضافة إلى جيلين من اللبنانيين فضلاً عن أوائل المتخرجين الجزائريين والليبيين إلخ)..
لقد تعززت الجدارة السياسية بأن مصر كانت، آنذاك، جامعة العرب، وصحافة العرب، وكتاب العرب، والدولة التي ساهمت في تعليم جيل أو جيلين من العرب، قبل الحديث عن الموقع المؤثر في السياسة الدولية التي تحققت للعرب فصاروا يشعرون بشيء من الزهو كونهم يؤثرون في القرار الدولي، وكون دولتهم الحاضنة تتقدم لاحتلال المكانة التي كانوا يتطلعون إليها.
أما اليوم فالعرب بلا عاصمة، أي بلا مرجعية سياسية: دول تمزقها الحروب الأهلية أو ما يماثلها (وإن كامنة)، وهم محتربون في ما بينهم، بعضهم يتواطأ على البعض الآخر إلى حد المشاركة في الحرب عليه بذريعة اختلافه مع نظامه.
إن أربع دول عربية، على الأقل، تحترق في قلب الحرب فيها وعليها. وهناك دول أخرى قلقة تحاول تفادي تمدد النار إليها، بأي ثمن، فتستدعي قوات أجنبية لحمايتها. وثمة دول أخرى أسقطت حالة العداء عن إسرائيل طلباً للسلامة. وثمة دول أخرى تنسق مع العدو الإسرائيلي مخابراتياً، فضلاً عن التعامل معه اقتصادياً.
أما في مجال الثقافة والتعليم فيمكن القول بلا تحفظ إن الأجيال العربية الجديدة لا تعرف لغتها، وأن لغة التخاطب في البيوت هجينة (شيء من الفرنسية أو إنكليزية مطعمة بكلمات عربية مكسرة)، وأن الموسيقى والغناء وسائر ما يتوجه إلى الوجدان فيغذيه، تكاد تكون أجنبية أو مهجنة. و «النخب» العربية تفضل الحديث بلغة أجنبية (الإنكليزية غالباً، والفرنسية في بعض الحالات وبعض البلدان التي أخضعها الاحتلال الفرنسي طويلاً، كدول شمالي أفريقيا خاصة الجزائر، والمغرب إلى حد.. أما لبنان فخليط من الفرنسية والإنكليزية..). بل إن الأجيال الجديدة في مصر بالذات لا يتقنون العربية ويهربون منها باعتبارها من سمات التخلف والتقوقع في عصر لم تطرق أبوابه العولمة (لغة الإنترنت ومشتقاتها جميعاً إنكليزية مؤمركة..).
ليس القصد من هذه الكلمات رثاء أستاذنا هيكل. ذلك واجب لم يقصر في أدائه أي صاحب قلم، بمن فيهم من كانوا يُصنَّفون «أعداءً له».
لقد مضى «الأستاذ» إلى ربه، ولم يبق منه إلا تراثه في الفكر السياسي، وجهده في التأريخ لحقبة هي الأخطر في حياة هذه الأمة العربية.
لكن غيابه جاء في لحظة التيه العربي التي نعيش فيها غرباء عن أنفسنا، غرباء في أوطاننا، متقاطعين إلى حد الحرب التي استولدتها الخصومة السياسية والتي أخذت دول عربية كثيرة إلى مطالبة «الاستعمار» بأن يعود إليها، ليس بشركاته وجامعاته ومخترعاته، بل بعسكره وبالهيمنة السياسية ـ الاقتصادية، وتوسل مؤسساته المالية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بأن تتولى «ترشيد» موازنات دوله بالثمن الفادح.
لكأنه اختار لحظة رحيله. كان يرفض اليأس، لكن كل ما حوله يلتهم آماله وأمنياته، وحتى أمله بأن تجد هذه الأمة طريقها للعودة إلى ذاتها، والإمساك بمقدراتها وصنع غدها بكفاءة أبنائها وقدرات بلادها.
إننا في زمن التيه: دولنا ليست دولاً. كلها «مستقلة» ولكنها تلح في طلب الاستعمار بصيغته الجديدة: الهيمنة من دون عسكر، بعدما ثبت أن «الدولار» أقوى جيش غزو في العالم، وبعدما احتكرت أميركا وقلة من دول أوروبا أسباب العلم، وسيطرت على وسائل التواصل في العالم.
ثم إن دولنا محتربة. صارت دول الخليج قوى محاربة في حين أنهكت الحروب في الخارج أو في الداخل أو في كليهما معاً سوريا والعراق (وأخيراً اليمن) بينما تم تذويب ليبيا، وتونس على شفا هاوية تتهدد استقرارها وثورتها الشعبية العظيمة.
نكاد نقول إن «الأستاذ» قد اختار موعد رحيله. ونكاد نحسده على غيابه حتى لا يعيش ما نعيشه الآن، وما يتهددنا من أسباب حياتنا في مستقبلنا القريب.
ويبقى الأمل في تغيير جدي وجذري يعيد إلى هذه الأمة قدرتها على بناء غدها. وبين شروط هذا التغيير أن تستعيد مصر ذاتها ودورها الذي لا يمكن أن يحل مكانها فيه أحد.
أرسل تعليقك