ميشال عون يدرك أنه رئيس دولة يحكمها حزب الله ويدرك أنه ما كان ليصل إلى سدة الرئاسة لولا حزب الله، ويعلم أن الخروج على سلطة هذا الحزب أكثر كلفة من الخروج على الإجماع العربي.
عشية انعقاد القمة العربية في الأردن (الأربعاء) تتجه الأنظار لبنانيا إلى ما يمكن أن يقوله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في كلمته خلال القمة العربية، وكيفية تظهير موقف لبناني من الوجهة الشديدة الوضوح داخل القمة بتصعيد الموقف من التدخل الإيراني في المنطقة العربية، لا سيما أنّ لبنان كان في مناسبات شبيهة وفي القمة التي عقدت العام الماضي كشف عن سياسة تتمايز عن التوجه العام العربي الذي عبّر بقرارات من الجامعة العربية عن مواقف تدين التدخل الإيـراني، فيما لبنان نأى بنفسه عن هذا الموقف، وهو ما سبّب تدهورا في علاقـاته مع دول الخليج العربي التي ردّت على التردد اللبناني بالمزيد من الإجراءات العقابية التي طالت مباشرة حزب الله وأصابت لبنان بطريقة غير مباشرة نتيجة تجميد ووقف العديد من المساعدات التي كانت مقـررة للبنان، ولا سيما من المملكة العربية السعودية، ونشأ نوع من التضييق على اللبنانيين المقيمين في هذه الدول وزاد التضييق على منح التأشيرات للبنانيين الراغبين في الدخول والعمل في هذه الدول.
الدبلوماسية العربية في لبنان، ولا سيما السعودية، وجهت رسائل مباشرة عبر القنوات السياسية إلى المسؤولين اللبنانيين بأن علاقتها مع لبنان يرتبط تقدمها وتطورها بمدى انسجام الحكومة اللبنانية مع القرارات العربية التي تذهب باتجاه أولوية الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية بما فيهما سوريا ولبنان فضلا عن العراق واليمن والبحرين.
هذه الرسـائل وصلت إلى ما دون السلطة الرسمية أيضا من خلال اتصالات واسعة قامت بها الدبلوماسية السعودية مع جهات اقتصادية ومالية وصولا إلى هيئات اجتماعية ومدنية وإعلامية. بطبيعة الحال الرسالة وصلت في إطار دبلوماسي ولكنها كانت حازمة في جوهرها، لا سيما بعد المواقف التي اتخذها رئيس الجمهورية من سلاح حزب الله واعتبـاره حـاجة للبنان، فيما تلقف حـزب الله هذا الموقف ليستكمل عبر أمينه العام السيد حسن نصرالله هجومه على المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وهما الدولتان اللتان يبني لبنان معهما أهم علاقاته الخارجية وتعتبران الأكثر دعما للبنان على المستوى الاقتصادي والمالي.
على أنّ ما يثير القلق اللبناني أكثر من أيّ وقت مضى هو الموقف الأميركي الذي بدا مع الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترامب أكثر حزما وتشددا تجاه إيران من الإدارة السابقة التي يعتقد الكثير من اللبنانيين أنّ الموقف اللبناني من الأزمات الإقليمية ولا سيما النفوذ الإيراني، كان يستند إلى عدم اهتمام أميركي بمواجهة هذا النفوذ، بل برفع الغطاء الذي وفر له المزيد من التمدد والنفوذ، وإلى اعتبار تدخل حزب الله في الأزمة السورية غير مضر بالمصالح الأميركية، وهو ما قاله وزير الخارجية الأميركية السابق جون كيري في العام الماضي، والـذي ساهم إلى حدّ كبير في إطلاق يد حزب الله ليس في سوريا فحسب بل إلى تراجع في نبرة التحذير والإدانة السياسية لحزب الله من مخاطر تدخله في سوريا.
قمة البحر الميت التي ستجمع الملوك والزعماء العرب لن تدفع ميشال عون إلى اتخاذ مواقف استثنائية على صعيد القضايا المتصلة بالنفوذ الإيراني، فرئيس الجمهورية يدرك أنه رئيس دولة يحكمها حزب الله
الإدارة الأميركية الجديدة تترقب هذه المرة موقفا من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية يصدر من قمة الأردن في البحر الميت في إطار ما يمكن تسميته ترتيب شروط المسرح قبل أن تتضح تفاصيل الاستراتيجية الأميركية التي يعتمدها ترامب، والتي وإن ظهرت بعض ملامحها وقواعدها غير أنّه ثمّة الكثير من الغموض الذي يحيط بها سواء على مستوى الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية. هذا الغموض لا يطال، كما هو ظاهر في مواقف معظم مسؤولي الإدارة الأميركية، أولوية مواجهة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
من هنا تبدو الدبلوماسية السعودية أكثر اطمئنانا هذه المرة إلى الموقف الأميركي من إيران بعد النفور الذي كان مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. من هنا أيضا يمكن فهم الانفتاح السعودي على الحكومة العراقية والذي ترافق مع تغيير الإدارة الأميركية لمواقفها. فاستراتيجية الانفتاح على الحكومة العراقية وإعفاء الرياض لبغداد من ديونها بعد إنعاش قنوات الاتصال بين العاصمتين والزيارات المتبادلة بين وزيري الخارجية في البلدين، كل ذلك يشير إلى أنّ هذا الحراك السعودي ما كان ليتم دون اطمئنان سعودي إلى التغيير المرتقب للسياسة الأميركية في العراق، ومحاولة استثمار هذا التغيير في سياق بلورة نظام مصالح عربي مشترك تعتقد الرياض أنّ حلقة العراق هي عنصر أساسي في إعادة الحيوية إليه.
لبنان وسط هذه التحولات الدولية والإقليمية، لا سيما صعود منسوب المخاطر الأميركية والإسرائيلية ضد النفوذ الإيراني، سيجد نفسه في القمة العربية أمام خيار وضع الرأس في الرمال أو إعادة الانسجام مع نظام مصالحه الذي يشكل ما تبقى من نظام المصالح العربية شريان الحياة لمشروع تثبيت ركائز الدولة، فيما جردة الحساب الدولية والأميركية تنشط هذه الأيام من خلال تشديد المطالب على لبنان بالالتزام بالقرارات الدولية ولا سيما القرارين 1701 و1559 خاصة في بنودهما المتعلقة بإنهاء الميليشيات اللبنانية ودعم قوى الشرعية اللبنانية التي يجب أن تحتكر وحدها حمل السلاح واستخدامه.
وفيما تبدو الإجراءات الأميركية آخذة في اتجاه المزيد من التشدد حيال العقوبات المالية على حزب الله ومن يتعاون معه على هذا الصعيد، برزت أخيرا إجراءات مالية عقابية أميركية اتخذت ضد الجامعة الأميركية في بيروت بسبب تعاون قامت به الجامعة مع مؤسسات تابعة لحزب الله، وهذا مؤشر على مدى جدية الإجراءات الأميركية والتي ترافقت مع اعتقال أحد المتهمين في إدارة أموال تابعة لحزب الله، وهو قاسم تاج الدين أثناء مروره في مطار الدار البيضاء.
كل ذلك يجعل الحكومة اللبنانية أمام أسئلة إقليمية ودولية غير قابلة للتأجيل أو التمييع، إلاّ إذا كانت الحكومة اللبنانية ورئيس الجمهورية ميشال عون قادران على ممارسة فعل إدارة الظهر، لا سيما أنّ هذه السياسة فاقمت من أزمات لبنان المالية والاقتصادية في بلد يقوم اقتصاده بالدرجة الأولى على الخدمات المالية والمصرفية والسياحة، وهذه قطاعات من شروط نجاحها المحافظة على علاقات طبيعية مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية.
وفيما ينظر اللبنانيون إلى النموذج الإيراني الذي تقدمه في المنطقة العربية، لا يجدون فرصة لتعويض الخسائر العربية إلاّ بالصواريخ وسياسة التدخل العسكري لحزب الله في دول الجوار والاستنفار الدائم من أجل حرب قادمة. وهذا بحسب ما تظهر وقائع السنوات الست الماضية ساهم بدرجة كبيرة في استنزاف الدولة اللبنانية من دون فتح أيّ نافذة على أفق يعد بوقف الانهيارات في القطاعات الاقتصادية ولا في الدولة التي لم تشهد في تاريخها هذا المستوى من التصدع والعجز.
قمة البحر الميت التي ستجمع الملوك والزعماء العرب لن تدفع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى اتخاذ مواقف استثنائية على صعيد القضايا المتصلة بالنفوذ الإيراني، فرئيس الجمهورية الذي يدرك أنّه رئيس دولة يحكمها حزب الله، بل يدرك أنّه ما كان ليصل إلى سدّة الرئاسة لولا حزب الله، يعلم أيضا أنّ الخروج على سلطة هذا الحزب هو أكثر كلفة من الخروج على الإجماع العربي، وبالتالي فإنّ ميزان الأرباح والخسائر بالمعنى السياسي الضيق سيبقى هو المقرر، ومادام حزب الله مستمرا في عدم وضع العراقيل أمام نفوذ رئيس الجمهورية داخل الدولة، أيّ في ما يتصل بنفوذ تيار عون، فإنّ الرئيس لن يخيّب أمل حزب الله وسيمنحه ما يحتاجه من مواقف إقليمية مقابل هدايا حزب الله الداخلية.
موقف الرئيس اللبناني لن يتغير سواء في قمة الأردن أو في منابر أعلى أو أدنى ودائما على قاعدة تقدم المصالح الحزبية والطائفية على المصلحة الوطنية في أعراف وسلوك زعماء الطوائف في لبنان.
أرسل تعليقك