في يوم من العام 1995، اصطحبنا الزميل إبراهيم قراعين إلى حي سلوان المقدسي. وخبّرنا: بدلاً من اقتراح تيدي كوليك، أول رئيس عمالي لبلدية القدس بعد احتلالها، إقامة «ستاديوم» رياضي عربي، صار الحي في خطر التهويد. شعرت بغصّة، فقد كان إعلام م.ت.ف وفيّاً لشعارات «قاطعوا بلدية تيدي كوليك»!
هذا قبل هذه «الأوسلو».. ماذا بعدها؟ قبل رحيل «أمير القدس» فيصل الحسيني، اعترض رجالات في القدس الشرقية على اقتراحه إقامة ما يشبه «حياً سياحياً» عربياً في منطقة ما كان مطار القدس ـ قلنديا، لأنه يخلّ بالطابع الثقافي الإسلامي المحافظ لشرق المدينة.
بعد أربعة أيام من احتلال شرق المدينة، باشرت إسرائيل أولى خطوات «التهويد» بهدم «حي المغاربة»، لإعادة بناء وتأهيل ما سمي «الحي اليهودي» مكانه.
بعد نصف قرن على الاحتلال، قرأتُ في إصدار خاص لدورية «قضايا إسرائيلية» العدد 66 نص وثيقة إسرائيلية سرية موجهة من ديوان رئاسة الحكومة إلى سفارات إسرائيل وبعثاتها لتبرير هدم «حي المغاربة» بوصفه «وضع اليد لمدة عام فقط»، اي تجميدا مؤقتا ريثما تتم تسوية عقارية.
ما لبثت إسرائيل، بعد عام على الاحتلال، أن أعلنت «توحيد المدينة» وصار «وضع اليد المؤقت» سياسة إسرائيلية رسمية متبعة، لأن كل ما هو «مؤقت» يصير دائماً.
بعد الانتفاضة الثانية، باشرت إسرائيل بناء «جدار عازل» حول القدس، شمل قضم 12% من مساحة الضفة، وبرّرته إسرائيل بدواع «أمنية» وأنه «مؤقت» يسهل تفكيكه أو أقسام منه بعد الحل السياسي.
في إجمال سياسة إسرائيل، منذ عقيدة «سور وبرج» و»دونم آخر بعد دونم»، وصلنا إلى بناء أسوار تحيط بسائر حدود فلسطين مع جوارها. لماذا؟ بعد 1967 قال ييغال ألون: «الحدود الآمنة، التي هي ليست حدود دولة، لا تعتبر حدوداً آمنة.. وحدود الدولة التي لا يستوطن على طولها يهود ليست حدود دولة»!
وفق مراحل سياسة القضم والتوسع، مارست إسرائيل التهويد على منوال: «قص والصق»، إن في بناء جدران أمنية تصير سياسية، وإن في قص الديمغرافيا الفلسطينية وإلصاق الجغرافيا بإسرائيل.
يُعرف ييغال ألون بالمشروع الذي يحمل اسمه حول تهويد وضم غور الأردن، لكن ربطه بين حدود الأمن وحدود التهويد ماثل الآن خاصة في مسألة الديمغرافيا الفلسطينية في القدس «عاصمة إسرائيل الموحدة». قالت مائير: «الحدود حيث يقف الجنود».
ضمّت إسرائيل القدس الشرقية، لكنها لم تضم سكانها إلى رعايا الدولة، وأعطتهم صفة «مقيم دائم» لهم إن أرادوا حق التصويت للمجلس البلدي، وليس لهم حق التصويت للكنيست.
في عام قبل الانتفاضة الثانية، ناقشتُ في أحد الأعمدة مسألة مشاركة المقادسة في انتخابات المجلس البلدي، فاحتجّ البعض واعترض، لكن علمت من صخر حبش «أبو نزار» (رحمه الله)، أن هذا رأي فيصل الحسيني وآخرين.
الآن، منذ بعض السنوات القليلة، يناقش الإسرائيليون ما وصف بـ «سيناريو الرعب» لأن أصوات 40% من فلسطينيي القدس قد تشكل ثلث أعضاء المجلس البلدي.
يقترح البعض في إسرائيل «قص» الديمغرافيا الفلسطينية المقدسية التي تشكل 40% من سكان المدينة، وإلصاق مستوطنة «معاليه أدوميم» وحتى «عوفرا» و»غوش عتصيون» بالقدس «اليهودية»!
مع بناء جدار الفصل حول القدس، انتقل 70 ألف فلسطيني من مناطق خارج الجدار إلى منطقة نفوذ بلدية القدس. لكن، خلال الـ30 سنة الأخيرة غادر القدس زهاء400 ألف يهودي لأسباب مختلفة.
شيئاً فشيئاً، تغدو القدس مدينة مرشحة لتكون غالبيتها الديمغرافية مدينة للأصوليين اليهود وللعرب، خلاف تل أبيب اليهودية ـ العلمانية.
يريد إسرائيليون يمينيون طرح وإخراج 140 ألف مقدسي من الديمغرافيا المقدسية البالغة حالياً 900 ألف، كخطوة لتقليل نسبة المقادسة الفلسطينيين من 40% إلى 20%، كما هو حال نسبة سكان إسرائيل من الفلسطينيين.
فشلت عملية «أسرلة» الفلسطينيين في ما وراء الخط الأخضر، ولا تلقى «أسرلة» الفلسطينيين في القدس نجاحاً كبيراً، وتزداد الفجوات الخدمية بين شطري المدينة، وتُردم بشكل بطيء بين شعبي دولة إسرائيل.
هذه السنة، بشكل خاص، نلاحظ أن الرئيس الفلسطيني، صار يخيّر إسرائيل بين «حل الدولتين» وبين دولة مشتركة ديمقراطية لجميع رعايا فلسطين التاريخية، وهو ما يعتبره معظم الإسرائيليين مفاضلة بين المرّ والأمرّ؛ الخطير والأخطر.
تشير آخر استطلاعات ليهود إسرائيل الى أن ما معدله 60% وأكثر لا يعتبرون الفلسطينيين فيها مواطنين متساوي الحقوق في «دولة يهودية»، وفق نظرية تقول: «متساوون أقل».
ستجري انتخابات بلدية في إسرائيل العام المقبل، وهناك نقاش في المجتمع العربي بإسرائيل حول بلديات خدمية غير سياسية.
خلال نصف قرن من ضم القدس شاركت نسبة ضئيلة من سكانها الفلسطينيين في الانتخابات البلدية، باستثناء دورة انتخابية واحدة.
.. لكن، في انتخابات بلدية القدس، العام المقبل، توجد بعض المبادرات المبدئية نحو خوض الانتخابات، بينما يخشى الجمهور اليهودي من مشاركة كبيرة قد تؤدي إلى تحالف يهودي أصولي ـ عربي فلسطيني يحتل مقاعد نصف المجلس البلدي.
هناك من يرفع راية: دولتان ـ وطن واحد؛ وهناك من يرفع راية قدس مشتركة وبلديتان، وهناك في إسرائيل من يمارس خيار: قص للديمغرافيا الفلسطينية ولصق للديمغرافيا اليهودية.
أرسل تعليقك