في إحدى رواياته، ولعلها المعنونة "جفاف الحلق" ذكر "غريب عسقلاني" (إبراهيم الزنط) أن المهاتما غاندي زار فلسطين قبل النكبة، وبالذات مجدل ـ عسقلان وراقب عمل النسّاجين المَهَرَة فيها.
هل بسبب الزيارة قال غاندي: "فلسطين عربية، كما بريطانيا إنكليزية" أم أن زيارته لنسّاجي مجدل ـ عسقلان، أوحت له بمقاومة الاستعمار البريطاني، ومصانع نسيجه في مانشستر، بغزل ملابسه المتقشفة على النول اليدوي؟
زيارة سحابة نهار أدّاها لرام الله رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، اعتبرت "تاريخية" وقُلِّد فيها بأعلى ميدالية فلسطينية، وزار ضريح عرفات ومتحفه، ووقع الجانبان أربع اتفاقيات للتعاون.
كان في إمكان ناريندرا، عندما زار إسرائيل صيف العام المنصرم، أن يقوم، كغيره من كبار الزوار، بالتعريج على فلسطين، لكنه اختار أن تكون فلسطين أوّل جولة عربية مقلّصة، ربما لأن فلسطين ليست ملحقاً بروتوكولياً ـ دبلوماسياً بإسرائيل، وعلى الأرجح لتأكيد تصويت الهند في الجمعية العامة، إثر مبادرة ترامب المشؤومة حول القدس، لصالح فلسطين الدولة.
عرب وفلسطينيون امتعضوا من سياسة هند يقودها حزب بهاراتيا جاناتا، إزاء الانفتاح والتعاون الهندي ـ الإسرائيلي، لكن إسرائيل امتعضت من تصويت الهند إلى جانب دولة فلسطين والقدس الشرقية عاصمة لها.
الهند "دولة نوعية" في مسألة الاعتراف العالمي بدولة فلسطين، لأنها "أكبر ديمقراطية" في العالم، وقد تغدو، قريباً، أكثر دول العالم سكاناً متفوقة على جارتها الصين.
هناك من يقول إن مستقبل آسيا منوط بالتنافس بين النموذجين الصيني والهندي، سواء في عدد السكان أو الاقتصاد والتكنولوجيا. البلدان نموذجان كبيران عن نهضة متجددة للحضارة القديمة. بعد أن صارت الهند نووية كما الصين، وصارت الباكستان نووية كما الهند، انتهى عهد الحروب الحدودية بين الدول الثلاث. صارت الصين والهند من دول السباق على غزو الفضاء. وفي الغرب يطلبون مدراء تنفيذيين هنوداً للشركات الكبرى!
حتى وقت قريب، كان الجغرافيون قبل انفصال باكستان عن الهند، يتحدثون عن "العالم الهندي" كما "العالم العربي" وعن "الهند ـ الصينية" كذلك.
مع الاحترام للمحمدين: "شاعر الإسلام" محمد إقبال، الذي مات 1938 قبل انفصال باكستان، ومحمد علي جناح مؤسس الباكستان، الذي مات 1948 بعد سنة فقط من انفصال باكستان، فإن الباكستان تبدو دولة إسلامية غير ناجحة، ولا نقول فاشلة، قياساً إلى جارتيها الكبريين: الهند والصين.. ولسبب ديمغرافي هو أن الهند تفوقهما ديمقراطية، حتى أن رئيس جمهورية الهند كان مرة مسلماً، وعدد مسلمي الهند 220 مليوناً يفوق عدد سكان باكستان "الإسلامية".
الهند، حالياً، لم تعد بلاد جواهر لال نهرو، وأنديرا وراجيف غاندي، وحزب "المؤتمر" الأقرب إلى العالم العربي وفلسطين، لكن للهند برئاسة حزب هندوسي، أن تبحث عن المصالح أولاً قبل المبادئ، دون أن تتخلى تماماً عن سياسة عدم الانحياز إلى فلسطين أو إسرائيل.
كان للاتحاد السوفياتي سياسة مصلحية في الاعتراف بإسرائيل؛ وسياسة مبدئية منها بعد حرب حزيران 1967، ثم سياسة مصلحية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
بينما تجنبت فلسطين انتقاد سياسة المصالح الهندية بعد انتهاء حقبة "حزب المؤتمر" الذي قاد الهند نحو الاستقلال وسياسة "عدم الانحياز"، فإن إسرائيل تنتقد من ينتقد سياساتها، سواء وردت في تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، حول الشركات التي تعمل في المستوطنات؛ أو خلافها مع بولندا حول دورها في إرث النازية والمحرقة، أو حتى انتقاد بند في الائتلاف الحكومي الألماني الجديد حول الموقف ضد الاستيطان اليهودي.
عندما باعت إسرائيل للصين شيئاً من التكنولوجيا العسكرية الأميركية، تدخلت واشنطن، لكن نقل هذه التكنولوجيا إلى الهند وتطويرها هناك وتوطينها أمر مختلف، لأن أميركا تخشى الصين ولا تخشى الهند.
البعض ينظر إلى الزيارة الهندية "التاريخية" الأولى لفلسطين باعتبارها توازناً مع الزيارة الأولى الهندية لإسرائيل، ونتنياهو زار الهند مراراً التي زارها، أيضاً، أبو مازن.
هؤلاء ينسون أن الهند أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فقط بعد اتفاقية أوسلو الفلسطينية ـ الإسرائيلية، كشأن الكثير من دول العالم في الاعتراف بإسرائيل وفلسطين.
بعد يوم من انتهاء الزيارة الهندية لفلسطين، زار رئيس السلطة روسيا مرة أخرى، التي يزورها نتنياهو بانتظام للبحث مع بوتين حول بدائل الاحتكار الأميركي لعملية التسوية، علماً أن موسكو تقول بقدس عاصمة دولتين، خلاف ما تقوله وتعمل له إسرائيل.
يقولون إن القائل أهم من القول، وزيارة رئيس وزراء الهند أهم من القول إن بلاد أكبر ديمقراطية في العالم يحكمها الآن رئيس ينتمي إلى حزب يميني. فلسطين تدير مع دول العالم "سياسة دولة".
أعلام، رايات .. وبيارق
مع كل زيارة أجنبية لبلادنا ترتفع أعلام فلسطين وعلم الدولة الزائرة على أعمدة الطرقات.. لكن مع كل يوم تأسيس فصيل فلسطيني، ترتفع راياته على أعمدة الشارع الرئيسي في رام الله.
هكذا، بيارق "فتح" تليها رايات "الجبهة الشعبية" والآن المبادرة الوطنية الفلسطينية، وبعدها بيارق ورايات الجبهة الديمقراطية.
العلم علم دولة وشعب.. وللفصائل راياتها وبيارقها تذكاراً لوجودها الآفل!
أرسل تعليقك