كان بيار الجميّل دائم السؤال: «أي لبنان نريد؟» وصار سؤاله سؤالاً مطروحاً على شعوب دول «الربيع العربي»... وأيضاً طرحه، بالأمس، على شعب دولة إسرائيل تمير باردو، الرئيس السابق لـ «الموساد» الإسرائيلي.
كان المفكر اللبناني الماروني، ميشال شيحا، قد رأى، في المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل، خطراً على ما يسميه اللبنانيون «الصيغة اللبنانية».
ما هي «الصيغة اللبنانية»؟ هي تعايش طوائف لبنان وديمقراطية هذا التعايش، وفيها كانت الطائفة المارونية هي أكبر الطوائف لدى تشكيل «دولة لبنان الكبير».
بعد الحرب الأهلية اللبنانية 1975 ـ 1990، جرى في الطائف السعودية تعديل على توزيع الحصص بين طوائف لبنان، بما لا يمسّ بأساسها: الرئاسة للموارنة، رئاسة الحكومة للمسلمين السنّة، رئاسة البرلمان للشيعة.
أضافوا للطوائف الـ16 اللبنانية «طائفة» فلسطينية قالوا إنها شعب في دولة الطوائف. في إسرائيل هناك من يصف طوائفها بأنها دولة الأسباط اليهودية الـ12، وبخاصة اليهود الغربيين «الاشكناز» والشرقيين «السفاراد».
نعم، شكّل الجيش الإسرائيلي بوتقة ومصهراً لأشتات الأسباط، وقيل ويقال: لكل دولة جيشها؛ ولإسرائيل جيش وله دولة.
في دولة عاشت تحت «خطر وجودي» من دول وجيوش عربية مجاورة، تغيّر الحال، وصار الادعاء أن إيران والمنظمات المسلحة هي الخطر الوجودي، لكن رئيس «الموساد» السابق يرى في الخطر أنه «التهديد الديمغرافي» الذي يشكله الوجود الفلسطيني، أي استمرار الاحتلال، وبدائل الحل: دولتان؛ دولة واحدة، والأخير هو كارثة كبرى للمشروع الصهيوني كما يراه!
خلاصة مداخلة باردو في كلية «نتانيا» للأمن والاستراتيجية: «لا تطبيع مع العرب قبل حلّ المسألة الفلسطينية». إنه خارج الخدمة، أما خلفه، يوسي كوهين، فيرى في إيران «الخطر الأكبر» مثله مثل نتنياهو، وأما رئيس الأركان، غادي ايزنكوت، فيرى في «حزب الله» التهديد الرئيسي العسكري لإسرائيل، وبشكل أقل خطورة الضفة الغربية وغزة.
المهم أن رؤية باردو ترى في الفلسطينيين بمجموعهم شعباً ديمغرافياً من «البحر إلى النهر» خلاف سياسة إسرائيل الرسمية في التعامل المجتزأ مع الديمغرافية الفلسطينية.
.. فإلى لبنان، حيث تغيّر توازن «الصيغة اللبنانية» وصارت الطائفة الشيعية هي الأكبر ضمن الطائفة الإسلامية، التي هي الأكبر بين طوائف لبنان.
ومن اعتبار الوجود الفلسطيني في لبنان «دولة داخل دولة» إلى اعتبار إسرائيل أن حزب الله وجيشه جزء من جيش لبنان ودولته، وعلى هذا الأساس ستدير إسرائيل حربها المقبلة مع الحزب باعتباره حرباً على دولة لبنان.
في ديمقراطية الطوائف في لبنان، هناك تداول للرئاسة، وتبقى مارونية؛ وتداول في رئاسة الحكومة، وتبقى إسلامية سنّية؛ وتداول في رئاسة مجلس النواب، التي تبقى شيعية.
هناك نزاعات داخلية بين هذه الطوائف، لكن الطائفة الدرزية تبقى أكثرها ترابطاً سواء بين فرعيها الجنبلاطي الأكبر واليزبكي الأصغر، أو بين قيادتها السياسية الجنبلاطية وقيادتها الروحية.
لكل طائفة لبنانية حصتها في الحكومة والبرلمان، وبسبب تنازع داخلي، وأحياناً اقتتال، داخل بقية الطوائف، فإن الكتلة البرلمانية الدرزية، الصغيرة نسبياً، هي لسان الميزان المرجح.. وكذا كانت زعامتها السياسية.
كان زعيمها السياسي، كمال جنبلاط، هو المرجّح في الحياة السياسية ـ البرلمانية ـ العسكرية، باعتباره زعيماً غير منازع للحركة الوطنية اللبنانية، إبّان الحرب الأهلية، وحليف الفلسطينيين الأول، حتى اغتياله في 16 آذار 1976.
كما هو التقليد اللبناني، فقد خلفه ابنه كمال جنبلاط، والآن يخلف تيمور زعامة والده وجدّه.. وأجداد الرئاسة الدرزية اللبنانية.
وفي الاحتفال في «المختارة» عرين الدروز السياسي، قلّد وليد ابنه تيمور الكوفية الفلسطينية، وأنشد الجميع نشيد «موطني»، وليس النشيد الوطني اللبناني: «كلنا للوطن/ للعلا والعلَم/ ملء عين الزمن/ سيفنا والقلم».. ولو تهكم لبنانيون، إبّان احترابهم، بالقول: «كلنا عَ الوطن»؟!
خاطب وليد نجله تيمور: «اشهر عالياً كوفيةَ فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا.. كوفية دار المختارة».
قال تيمور مؤخراً في حديث صحافي: لسنا الحزب الوحيد الذي يسلم فيه الأب الزعامة لابنه، فغالبية الأحزاب على الساحة تفعل ذلك.. لنعترف أن ديمقراطيتنا ليس مثالية.. كلنا بيوتنا من زجاج».
إذن، في ديمقراطية الطوائف اللبنانية، لا وجود لتوريث رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان، لكن توريث لزعامات الأحزاب الطائفية.
بعد رئيس «الكتائب» المؤسس، بيار الجميّل، خلفه في الزعامة نجله بشير، ثم أمين، وبعد رئاسة سليمان فرنجية للدولة، خلفه ابنه طوني في رئاسة الحزب، ثم خلف الحفيد سليمان والده.
الطائفة الدرزية في سورية عروبية؛ وفي لبنان عروبية ـ تقدمية اشتراكية، وفي إسرائيل عروبية ـ فلسطينية، رغم الادعاء الإسرائيلي بوجود «حلف دم»، لأن مثل هذا الحلف كان حقيقة بين المقاومة الفلسطينية في لبنان، والزعامة اللبنانية ـ الدرزية زعيمة الحركة الوطنية.
.. وإلاّ، ما تحدث رئيس «الموساد» السابق عن المجموع الفلسطيني من النهر إلى البحر، مقابل المجموع اليهودي ـ الإسرائيلي.
اتعظ شعب لبنان من حروبه الأهلية، حول جواب السؤال: أي لبنان نريد، وبقي بمنأى عن الحروب الأهلية العربية في دول «الربيع العربي»، ونجا من تقسيم بلاده لأن لشعبه «تقاليد حياة» مشتركة وبفضلها صمدت «الصيغة اللبنانية» العجيبة التي ترى في إسرائيل كما رآها ميشال شيحا.
أي دولة تريدها شعوب دول «الربيع العربي»؟ أي دولة يريد الشعب الإسرائيلي؟ صهيونية؟ يهودية؟ إسرائيلية؟ هذا دور العامل الفلسطيني في الجواب.
أرسل تعليقك