في قعدة مسائية، أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، طرح عليّ صبري جريس سؤالاً في طيّ جواب: كم كان عدد الكفاءات الفلسطينية التي بقيت بعد النكبة؟ وكم صار عددها في دولة إسرائيل؟
إن قالت الصهيونية إن «الهولوكوست» أباد نصف يهود العالم، فإن النكبة قصمت ظهر 70% من الشعب الفلسطيني، الذي تركز معظمه ديموغرافياً ومن حيث الكفاءات في ساحل فلسطين.
ها نحن على مشارف «يوم الأرض» حيث إسرائيل «ملخومة» بسؤال آخر: إذا مال الميزان الديموغرافي في أرض فلسطين؟
في «يوم الأرض» الأول عام 1976، كان صبري جريس في بيروت، يدير «مركز الأبحاث» التابع للمنظمة، لكنه هو من كان ثالث مؤسسي «حركة الأرض» في العام 1959 سوية مع منصور كردوش، وحبيب قهوجي، وقت أن كان الفلسطينيون في إسرائيل تحت حكم عسكري لم يرفع إلا في العام 1966. نعم، قرأت نشرات «الأرض» الصادرة بدمشق (الآن) هو في قريته الجليلية «فسوطة» وفيها كتب كتابه الأول بالعبرية «العرب في إسرائيل» قبل طرده، وفي بيروت أصدر كتابه الجامع ـ الجزء الأول بالعربية: «تاريخ الصهيونية» حتى العام 1948.
بوصفه خِرّيج قانون من الجامعة العبرية صدرت لـ»حركة الأرض» نشرة غير دورية، استغلت ثغرة في قوانين النشر الصارمة، حيث كان كل عدد يضاف فيه إلى «الأرض» كلمة أخرى «شذى الأرض»، «ربيع الأرض»، «نداء الأرض».. ثم قمعت!
حاولت حركة الأرض تسجيل نفسها: شركة، حزباً، قائمة انتخابية، جريدة مرخصة، جمعية.. فجوبهت بالرفض لأنها تهدف إلى «القضاء على دولة إسرائيل»!
سجن صالح برانسي تسع سنوات. نفي حبيب قهوجي إلى دمشق بتهمة «التجسس».. وخُيّر صبري جريس، الذي وجد ثغرة في القانون الإسرائيلي، بين اعتقال إداري والنفي خارج البلاد، فغادر إلى بيروت، وعاد إلى قريته بعد أوسلو.
حسناً، إنه «يوم الأرض» ودار الزمان دورته بين «قعدة» مع صبري في منفانا القبرصي، حيث استأنفت المجلة المركزية ومركز الأبحاث الصدور حتى أوسلو، وبين اطلاعي على كتاب جديد لمركز «مدار» قيد الصدور عنوانه: «الاقتصاد الفلسطيني في الداخل ـ الواقع، الآفاق والتحديات» قيد التحرير والمراجعة على طاولة زميلي أكرم مسلّم.
إنه كتاب يجيب على سؤال صبري: كم كان عدد الكفاءات الباقية الفلسطينية بعد النكبة، وكم صار؟ تناول زميلي توفيق أبو شومر («الأيام» 21 آذار الجاري) جانب التمييز العنصري الفادح في عدد اليهود والفلسطينيين بوزارات إسرائيل وهيئاتها الحكومية.
في السنوات الأولى لأيام «الأرض» تحسّر أوري لوبراني: «لو بقي العرب حطّابين وسقّائي مياه»، وحذّر متصرف لواء الجليل، يسرائيل كينغ من أن العرب في إسرائيل هم «سرطان»!
الآن، نسبة عديد الشعب الفلسطيني في إسرائيل هي 17,5% دون احتساب القدس الشرقية والجولان المحتل، وتدعي إسرائيل أن حالهم أسعد من حال الفلسطينيين في مناطق السلطة، وهؤلاء أسعد حالاً من اللاجئين الفلسطينيين في المنافي العربية.
حسب الكتاب قيد الصدور، فإن إسرائيل هي الرابعة عالمياً في مجال «الهايتك» بفعل عاملين: دور الصناعة الحربية (حيث يُستثنى الفلسطينيون من العمل فيها) ودور الهجرة الروسية في دفع ورفع صناعة «الهايتك».
إن 17,5% من سكان إسرائيل العرب يسهمون بـ7% من ناتج إسرائيل القومي، بينما صناعات «الهايتك» تشكل 50% من صادرات إسرائيل الصناعية، ويعمل فيها 100 ألف مهندس وخبير، لكن بينهم 2000 مهندس عربي فقط، ارتفاعاً من 300 مهندس عام 2007، لأن هناك قفزة نوعية في عديد الطلاب العرب في الجامعات والمعاهد التكنولوجية الإسرائيلية، لكن من بين 500 شركة تكنولوجية في مجال «الهايتك» لا توجد بعد أي شركة عربية.
افتتحت حديثاً «حديقة صناعية» في مدينة الناصرة، ما سيرفع عدد موظفي «الهايتك» في المجتمع العربي خاصة. وتقول صحيفة «ذي ماركر» الاقتصادية لمجموعة «حقارت» أن قلّة الاستثمار في مجال «الهايتك» في القطاع العربي يعني خسارة الاقتصاد الإسرائيلي 40 مليار دولار سنوياً.
يعود سبب ضعف قطاع «الهايتك» العربي إلى عاملين: شركات «الهايتك» اليهودية توظف من أنهى خدمته العسكرية في وحدة تكنولوجية، والعرب يرفضون عموماً الخدمة العسكرية وترفض الشركات توظيفهم لهذا السبب. السبب الثاني ضعف البنية التحتية في مجال المواصلات إلى المدن حيث تتركز فيها شركات «الهايتك».
مع ذلك، تطمح الحديقة الصناعية في الناصرة إلى رفع عدد موظفيها من عدة مئات إلى عدة آلاف، كما أقيم في مدينة كفر قاسم مركز تكنولوجي لدمج الشباب العربي في مجال «الهايتك».
المهم أنه بين العامين 2007 و2015 ارتفع عدد العاملين العرب في صناعة «الهايتك» من 700 موظف إلى 2000، وارتفع عدد طلاب «الهايتك» بنسبة 50%.
خارج معلومات الكتاب قيد الصدور عن مركز «مدار» قرأتُ أن شركات تكنولوجية إسرائيلية اتفقت من «الباطن» مع خبراء برمجيات في غزة لإعداد بعض البرمجيات.
بينما الميزان الديموغرافي يقلق بعض الإسرائيليين، فإن هناك ميزاناً آخر، نوعياً، يبدأ في سد الفجوة التكنولوجية ولو ببطء، أمّا الفجوة الاقتصادية فلها جانب سياسي، حيث يخسر الاقتصاد الفلسطيني 8–9 مليارات دولار بسبب الاحتلال الإسرائيلي والإلحاق الاقتصادي وعدم قيام دولة فلسطينية مستقلة.
يبقى هناك سبب للطفرة التكنولوجية في إسرائيل، وهو أن كل ابتكار تكنولوجي في أميركا مثلاً يتطلب وضعه في دورة الاقتصاد مدة 8-10 سنوات، لكنه في إسرائيل يوضع في خدمة الاقتصاد خلال 3-5 سنوات، بسبب حجم الاقتصاد الصغير نسبياً فيها.. و»السطو» الإسرائيلي على براءات الاختراع، أيضاً.
المصدر : جريدة الأيام
أرسل تعليقك