نظرة سريعة إلى توزيع البرّ والبحر، بين قارتي أفريقيا وأميركا الجنوبية كافية للاستنتاج أنهما كانتا برّاً متلاصقاً.. في زمن جيولوجي سحيق.
نظرة خاطفة إلى شاطئ البحر الأحمر تفيد أنهما مثل شدقي صدع جيولوجي انفصلا في زمن جيولوجي لاحق لانفصال قارتي أفريقيا وأميركا الجنوبية.
علماء جيولوجيا انزياح القارات يقولون إن شبه الجزيرة العربية تنزاح إلى الشمال الشرقي، وقارة أفريقيا تنزاح إلى الشمال الغربي.. ومن ثم، بعد ملايين السنوات، سيكون البحر الأحمر في سعة المحيط الأطلسي!
الزمن، كما نعرف، هو البعد الرابع؛ والزمن الكوني أبطأ من الجيولوجي، وهذا أبطأ من الجغرافي.. ثم التاريخي والأيديولوجي.. وأخيراً السياسي!
أحسن ما قيل عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، جاء على لسان الفرنسي ليونيل جوسبان: «الانتفاضة قادمة من البعيد.. وذاهبة إلى البعيد».. وأبعد منها القضية الفلسطينية، لأن إسرائيل قادمة من «بعيد» أعماق المسألة اليهودية.
يقولون إن الزمن السياسي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي عمره يزيد على قرن، واحتدّ هذا الصراع قبل سبعين سنة، وقد تكون أوسلو هذه بداية لحلّه، باعتباره «التقسيم الثالث»، بعد «لجنة بيل» عام 1937، والتقسيم الدولي 1947.
المسألة أعقد من حل «المسائل الخمس» لاتفاقية أوسلو الدولية لأن «زمن» وواقع الوضع الفلسطيني، السياسي والديمغرافي، قبله غير ما صار بعده؛ ولأن «زمن» وواقع الاستيطان اليهودي قبله غير ما بعده. المسألة لا تتعلق بعلاقة الحل السياسي بالجغرافيا، وعلاقة الجغرافيا بالديمغرافيا.
منذ أوسلو تعددت مشاريع الحل الدولية والعربية، كما تعددت قبلها، لكن جذورها تجدها في ما قبل قيام إسرائيل ونكبة فلسطين.
يمكن إجمال مشاريع الحل بثلاثة: «حل الدولتين» و»حل الدولة المشتركة».. وأخيراً «دولتان ووطن واحد»، والأخير يمكن تبسيطه بكونفدرالية بين دولتين، ويراه إسرائيليون على أنه دولة سيادية إسرائيلية وكيان فلسطيني غير سيادي.
أخطر ما في مشروع «الصفقة» ليس تخلي الرئيس ترامب عن «الحل بدولتين» بل في موقف جديد لا يرى في الاستيطان عقبة أمام «صفقة الحل» أو عملية السلام الجديدة.
الناطقون الرسميون الفلسطينيون، من رئيس السلطة إلى كبير المفاوضين، يكررون الالتزام بالشروط السياسية الفلسطينية والدولية لأي «صفقة»، وفي ذات الوقت، ولغايات دبلوماسية، يُبدون «ثقة» بجدّية الرئيس ترامب في تحقيق «صفقة» سلام!
عندما لوّح الرئيس بوش الابن أن تقسيماً وفق «الخط الأخضر» لـ»حل الدولتين» لم يعد واقعياً دون تعديله بالاتفاق، أتبعه بطلب من إسرائيل الشارونية بإزالة «البؤر العشوائية» الاستيطانية في الضفة بعد أوسلو، فقبل شارون ذلك، لكنه وضع 14 شرطاً، ثم قام بانسحاب أُحادي من قطاع غزة، وبإخلاء أربع مستوطنات في محافظة جنين.
ليس لدى السلطة «تفاصيل» عن خطة ترامب، التي يُقال إن طرحها تأجّل حتى آذار المقبل، أي حتى تبني أميركا وإسرائيل ودول عربية معينة، تحالفاً ضد إيران وأذرعها «الإرهابية».. من تعريب الحروب المذهبية، إلى حرب مذهبية مع إيران!
الدول التي مارست الإرهاب، سرّاً وعلانية، صارت ضده أو تتنصّل منه علانية، وكذا الدول التي هي ضحايا الإرهاب أو تدخّلت لمحاربته، ولكل طرف في الفريقين تعريفه للإرهاب وممارسته وحركاته. فريق يقول بإرهاب شيعي، وآخر يقول بإرهاب سنّي. المنطقة مرشحة لـ»يالطا» روسية ـ أميركية!
فريق مشروع «الصفقة» هو ثلاثي أميركي ـ يهودي، وإسرائيل التي «تسرّب» مبادئ الصفقة لتقوم أميركا بنفي التسريب، وضعت ثلاثة شروط لأي صفقة، وهي: لا سيادة على المجال من البحر إلى النهر سوى السيادة الإسرائيلية، ورفض إخلاء أي مستوطنة، والقدس عاصمة مُوحَّدة ووحيدة لإسرائيل، ورفض عودة اللاجئين حتى إلى مناطق السلطة؟
من الواضح أن شروط بناء تحالف ضد الإرهاب، وشروط إسرائيل لقبول «صفقة» ترامب تتعارض فيما بينها. هل بناء عربة التحالف يسبق الصفقة أم حصان «الصفقة» يسبق التحالف؟
إذا قال ترامب إن المستوطنات ليست عقبة أمام «الصفقة»، فإن اي تحالف ضد الإرهاب هو عقبة أمام «الصفقة».
يقول الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، إن المرحلة القادمة ستكون حاسمة لتصويب العلاقات الفلسطينية ـ الأميركية، «بعد إجراءات أميركية غير مقبولة» في إشارة الى أزمة مكتب المنظمة بواشنطن!
المعنى؟ اختلفت الفصائل الفلسطينية بسبب أوسلو، والآن تختلف مواقفها من الصلحة باختلاف الموقف من بناء تحالف ضد الإرهاب.. لكن، لا يجب أن تختلف في موقفها من «الصفقة».. كيف؟
الولايات المتحدة في سياستها الجديدة لإدارة جديدة انسحبت من سياسة سالفتها في مسائل أميركية، وكذا من اتفاقيات دولية حول المناخ، واتفاقيات دولية حول التبادل بين الكتل الاقتصادية، وحول اتفاقية فيينا الدولية مع إيران.. وقريباً قد تنسحب من مشروع الصفقة، وبالتالي من بناء تحالف دولي ضد الإرهاب.. لكنها لن تنسحب من علاقتها الخاصة مع إسرائيل، حتى لو رفضت حكومتها الحالية شروط الصفقة.
إسرائيل تراهن على رفض فلسطيني، والسلطة تراهن على رفض إسرائيلي.
أرسل تعليقك