بقلم - حسن البطل
عديدة هي التوبيخات التي تلقيتها من أبو عمار، معظمها في المرحلة القبرصية من "فلسطين الثورة ـ قبرص". في المرحلة البيروتية كان يتردد كثيراً على مكاتبنا، وفي المرحلة القبرصية ولا مرّة طوال 13 عاماً.
الآن، باشر الرئيس التركي أردوغان خطوات أولى لإنشاء منطقة أمنية بعمق 30كم وطول 450كم شرق الفرات.
في ثمانينيات القرن المنصرم، وقعت في مطبّ إعلامي ـ بروتوكولي ـ سياسي، إذ كتبتُ في زاويتي مقالة بعنوان "عصملية جديدة"، وتصادف نشرها مع أول اجتماع في بغداد بين عرفات ورئيس الوزراء التركي، بولنت أجاويد في بغداد. السفير التركي هناك احتجّ لدى أبو عمار، الذي اتصل بنا في نيقوسيا وقال لنائب رئيس التحرير: "قل لحسن عصملية براسك".. ما هذا التوقيت بعد أن "طرّاها" الأتراك معنا، فقد طووا صفحة العلاقة بين (م.ت.ف) وجماعة عبد الله أوجلان، واعترفوا بمنظمة التحرير الفلسطينية.
في التسعينيات، أبعد حافظ الأسد الزعيم الكردي أوجلان الملقب "آبو" من لبنان، ما مكّن أنقرة من اعتقاله وحبسه، فحصل انفراج مفاجئ في العلاقة السورية ـ التركية المأزومة تاريخياً، منذ سيطرة تركيا، أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم، على لواء الاسكندرون، الذي صار "هاتاي" ومساحته نصف مساحة لبنان. قيل وقتها إن الأسد الكبير طوى بذلك مطالبة سورية المزمنة باستعادة ما فقدته وقت الانتداب الفرنسي عليها.
بعد اندلاع الانتفاضة السورية عادت علاقة دمشق بأنقرة إلى التأزّم، بعد ما صارت تركيا ممراً لتجميع الفصائل المعارضة السورية للنظام، والتدخل الإيراني ثم الروسي لدعم النظام في استعادة ما فقده من أراض سيطرت عليها المعارضة على اختلاف مصادر دعمها العربية والإقليمية والدولية. في محصّلة ذلك، بقي ثلث سورية، شرق الفرات، خارج سيطرة دمشق، وتولّت قوات سورية الديمقراطية ـ "قسد" مهمة تحريرها من "داعش" بدعم جوي من تحالف دولي تقوده أميركا.
إلى جانب ذلك، نشأ نوع من تحالف مصلحي ثلاثي: إيراني ـ روسي ـ تركي في المسألة السورية، لكن أنقرة أعاقت جهوداً سورية ـ روسية لتحرير محافظة إدلب، التي صارت منطقة لتجميع المعارضة المسلحة الحليفة لتركيا، وهي مجاورة للواء الاسكندرون (هاتاي) وكذا لمحافظة اللاذقية، حيث لروسيا قاعدة بحرية وجوية.
ترى تركيا أن المعارضة المسلحة في إدلب قوة حليفة، أما المعارضة الكردية شرق الفرات فهي "إرهابية". هكذا، انتقل تعقيد مسرح العمليات من غرب سورية إلى شرقها، حيث لأميركا قوات نخبة أرضية محدودة العدد لحماية الأكراد، وقوة جوية مؤثرة.
لتركيا أقوى جيش في حلف "الناتو" بعد أميركا، لكن نشأت أزمة أمنية ـ سياسية، عندما تزودت تركيا بصواريخ جوية روسية 400S فأوقفت أميركا خططها لتزويد سلاح الجو التركي بطائرات F35 الأميركية، لكن الخلاف بين الطرفين سببه أن أميركا ترى في "قسد" قوة حليفة، بينما ترى تركيا فيها قوة إرهابية.
تميل دمشق إلى إعطاء أكرادها حكماً ذاتياً لا يرقى إلى ما تتمتع به كردستان العراق، لكن تركيا ترى في "قسد" غطاءً أو حتى فرعاً لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
لا تريد دمشق وموسكو الصدام العسكري مع تركيا في إدلب، ولا تريد واشنطن الصدام العسكري معها شرق الفرات، وتريد تركيا الأردوغانية إقامة حزام أمني بعمق 30 كم وعرض 450 كم شمال شرقي سورية، ومساحتها أكبر من لواء الاسكندرون الذي كان "سليباً" ومن الجولان الذي ضمّته إسرائيل إليها بموافقة أميركية منفردة. هكذا يصير في سورية أربعة احتلالات أجنبية: إيرانية، روسية، إسرائيلية، تركية مع وجود عسكري أميركي، أيضاً.
السؤال: هل خطة الحزام الأمني التركي أمنية فقط، أم ذات بعد سياسي احتلالي؟ في الخطة التركية إقامة ثلاث كليات جامعية تركية في منطقة الحزام، وكذلك إعادة إسكان مليون لاجئ سوري لتركيا معظمهم من السوريين العرب السنّة لفصل تواصل الأكراد في سورية مع الأكراد في العراق؛ بما يذكّر بالحزام العربي في مناطق الأكراد في سورية، وكذلك في العراق قبل الحكم الذاتي الكردي الموسّع في نطاق الدولة العراقية، وكذا بالحزام الأمني الإسرائيلي في جنوب لبنان قبل تحريره.
العراق تخلّى عن أحلامه في "عربستان ـ خوزستان" وسورية عن أحلامها في "الاسكندرون ـ هاتاي"، لكن هل تخلّت تركيا عن أحلامها العثمانية في سورية؟
سورية كانت آخر منطقة تنحسر عنها إمبراطورية آل عثمان فقط، بعد الانتفاضة السورية أخلت تركيا حاميتها في عمق الأراضي السورية، التي كانت تحرس قبر أحد مؤسّسي الإمبراطورية الذي مات غرقاً في نهر الفرات.
تركيا تتردّد بين الأمن في حلف "الناتو" ونوع من الحلف المصلحي مع روسيا وإيران في سورية، وبين سياسة أحمد داود أوغلو "صفر مشاكل" ومشاكلها مع سورية وأكرادها والعراق وأكراده.
هددت تركيا بشن حرب على سورية حتى أبعد الأسد أوجلان، ومن قبل هددت سورية في خمسينيات القرن المنصرم لدفعها لقبول "حلف بغداد" أو حلف "المعاهدة المركزية ـ السنتو" مع إيران الشاهنشاهية، ما دفع مصر إلى إرسال قوات عسكرية إلى سورية عام 1957، الذي كان مقدمة لوحدة سورية مع مصر لحماية التخم العربي الشمالي من مطامع تركية. أما التخم العربي الشرقي مع إيران فقد انهار بعد الغزو الأميركي، الذي صار غزواً إيرانياً للعراق.
علّمونا في دروس الجغرافيا أن جبال طوروس تشكل التخم العربي ـ التركي، فالحدود بين البلدين ترسم شكل الجبال، لكن الحقيقة أنها كانت حدود الخط الحديدي على سفوح الجبال وليس على ذراها، وهكذا بقيت "ديار بكر" العربية جزءاً من تركيا الأتاتوركية، ولسورية الصغرى أن تتخلى عن أحلامها في استعادة لبنان والاسكندرون وربما الجولان المحتل.
لا مصادفة أن الحزام الأمني ـ الاقتصادي ـ السياسي التركي شمال سورية يرسم شكل حدود سفوح جبال طوروس في عمق الجزيرة السورية. في زمن مضى كان الحُجّاج الأتراك يقولون عن سورية "شام شريف" ويخلعون أحذيتهم عندما يدخلون إليها، ويزورون قبر مؤسس الإمبراطورية العثمانية بعد معركة "مرج دابق" وكذا النكبة السليمانية في دمشق، في طريقهم إلى مكة والكعبة المشرَّفة.
لإيران أحلامها، وكذا لتركيا، وأيضاً، لإسرائيل.. وأما للعرب فلهم واقعهم الحالي من الحروب والاحتراب والخراب.
أرسل تعليقك