«.. الذي علّم بالقلم..» وأنا، كصحافي فلسطيني، تعلّمت، أيضاً، من قلم الصحافي الإسرائيلي، أوري أفنيري، ما لم أكن أعلم.
في مقالة بعنوان «قصة وثيقة الاستقلال الإسرائيلية» («الأيام»، الثلاثاء 24 الجاري) علمت ما كنت أعلم، أي أن صاحبها كان محارباً شاباً في العام 1948. ما لم أعلم هو: لماذا قرّر أفنيري مغادرة الغرفة في كيبوتس «خولدا» بعد أن استمع إلى بن ـ غوريون يعلن «وثيقة استقلال إسرائيل»؟
لسببين: جوهري وشخصي، فهو رأى أن بن ـ غوريون يغالط التاريخ في بداية الوثيقة: «نشأ الشعب اليهودي في «أرض إسرائيل»، وتشكّلت فيها شخصيته الروحية، الدينية والسياسية» الواقع التاريخي أن «وعد إبراهيم» تلقاه لما كان في بلاد ما بين النهرين، و»الوصايا العشر» نزلت في جبل سيناء، و»التلمود» كُتب في بابل.
المغالطة الثانية، في قول بن ـ غوريون: «سعى (اليهود) في كل جيل إلى التمسك بوطنهم القديم» والواقع أنه بعد طرد اليهود (والمسلمين) من إسبانيا، استقرت غالبيتهم الساحقة في العالم الإسلامي، والقليل منهم في «أرض إسرائيل»!
المغالطتان وتصحيحهما كنت على علم بهما، وما كنت أعرفه، أيضاً، أن بن ـ غوريون اختار اسم الدولة بين ثلاثة خيارات: يهودا، فلسطين، إسرائيل، ورفض الأولى لأنه صهيوني علماني، والثانية لأن فلسطين إلى النسيان والإلغاء في نظره، ومن ثمّ اختار «إسرائيل».
كان أفنيري، وسواه كثيرون، يتحدثون، قبل إعلان بن ـ غوريون، عن «دولة عبرية» ويهتفون: «هجرة حرّة ـ دولة عبرية»، وليس «دولة يهودية» كما في «وثيقة الاستقلال».
عبرية، يعني عبرانيون، وعبور و»معابر» حدودية حالياً، وكذا «عابرُونَ في كلامٍ عابِر» في شعر أثار نقاشاً صاخباً في الكنيست إبّان الانتفاضة الأولى. وعندما كتب الشاعر «وثيقة إعلان استقلال فلسطين» قالوا في إسرائيل إنها «هندسة عكسية» لوثيقة إعلان استقلال إسرائيل، لكن أفنيري يرى أن الأخيرة مستوحاة من وثيقة الاستقلال الأميركية!
قال شاعرنا، أيضاً، إن معجزة إسرائيل الحقيقية هي في إحياء اللغة العبرية، ومن ثم تطويرها وإغنائها باليديشية ولغات أوروبية معاصرة.
نحن عرب لأننا نتحدث العربية، وكذا غيرنا فرنسيون، أو روس، أو ألمان لأنهم يتحدثون لغات خاصة بهم. الجيش الإسرائيلي بوتقة صهر، وأيضاً مدرسة لتعليم العبرية، لغة قومية ورسمية لدولة إسرائيل اليهودية ـ الصهيونية. يقول أفنيري إن ناس «الييشوف» اليهود قبل إعلان الدولة كانوا يتحدثون عن «عبرنة اللغة والزراعة والدفاع» وليس عن الديانة والتقاليد والمنفى اليهودي.
في القرآن تتكرّر عبارة «يا بني إسرائيل» وفي الكتب العربية القديمة ترد عبارة «الإسرائيلي النطاسي» كما في كتاب ابن أبي أُصيبعة «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، ومن الواضح أن أفنيري العبراني ـ اليهودي ـ الصهيوني، كان له أسباب علمانية لتفضيل «دولة عبرية».
يتحدثون في إسرائيل عن خراب الهيكلين الأول والثاني، لكن قليلاً عن دور الخلافات اليهودية الداخلية في هذين الخرابين، مثل دور تمرُّد بار ـ كوخبا في الخراب الثاني.
في منتصف عقد ستينيات القرن المنصرم، تمرد «الفهود السود» لأسباب اقتصادية واجتماعية وعرقية، فحذرت غولدا مائير من «حروب اليهود ضد اليهود».. والآن صراع في إسرائيل حول هُويّتها: العلمانية، الديمقراطية، اليهودية، أو سيطرة اليهودية على الصهيونية، وسيطرة المستوطنين على الدولة والجيش.
انقلاب أيديولوجي في الصهيونية منتصف سبعينيات القرن المنصرم، رفع «حيروت» وجناح الصهيونية ـ التنقيحية إلى الحكم، ومن يومها بدأت سيطرة اليهودية على الصهيونية العلمانية، إلى أن وصلنا إلى يومنا هذا، مع ولاية رابعة لنتنياهو الذي يطالب الفلسطينيين الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
كان هدف الصهيونية إقامة دولة، وتحقق هذا الهدف وبذا أنجزت مهمتها، وبدأت سيطرة يهودية على مفاصل «ديمقراطية صهيونية» مثل المحكمة العليا، وقبلاً تركيبة الكنيست والأحزاب.. والآن، جاء دور الجيش!
في العام 1948 كان هناك «خطر وجودي» من الجيوش العربية على دولة إسرائيل المعلنة، وفي العام 1967 تحول «خطر وجودي» إلى انتصار خرافي، وفي بداية حرب 1973 تحدث دايان عن «خراب الهيكل الثالث»!
الآن، لم يعد هناك «خطر وجودي» يهدد دولة إسرائيل القوية، لا من الجيوش العربية، ولا من الحركات الإسلامية، ولا من «دولة فلسطينية في جوار دولة إسرائيل».
ومن ثمّ؟ فإن السجال والخلاف في إسرائيل اليوم هو: أي إسرائيل يريد الإسرائيليون، بينما تشكل دولة فلسطين خطراً سياسياً وديمغرافياً على دولة إسرائيل، كما يقول البعض فيها، ولا تشكل خطراً وجودياً عليها، بل هي تشكل خطراً وجودياً على فلسطين والفلسطينيين.
منذ اغتيال رابين، صار يهود متطرفون يجمعون ضد الصهاينة البارزين شعار الصليب المعقوف والحطّة الفلسطينية العرفاتية، وحتى اتهام بعض كبار ضباط الجيش بالنازية من جانب غلاة المستوطنين.
إلى أن حذّر وزير الدفاع المستقيل، وكذا رئيس الأركان، ونائب رئيس الاركان من خطر الفاشية اليهودية، وبوادر نازية يهودية، على «الجيش الأكثر أخلاقية» الذي هو جيش الاحتلال.
إلى أين وصلنا؟ بدأت الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل بعقلية «سور وبرج» حول مستوطناتها الأولى، ثم صارت دولة إسرائيل «مُسوّرة» بالكامل، وكذا مستوطناتها في الأراضي الفلسطينية، ثمّ علمت من أودي أديف في رام الله أن كيبوتساً يقيم قبة قرب حيفا صار مُسوّراً، أيضاً، بينما الجيش الإسرائيلي قادر على حرية العمل في الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية المجاورة، وهو أقوى جيش في المنطقة.
العصابات الصهيونية أسّست الجيش الإسرائيلي الذي أسّس الدولة، والجيوش عادة تقوم بانقلابات عسكرية، لكن ما يحصل الآن في إسرائيل هو «انقلاب» الأحزاب اليهودية على جيش الدولة وجيش الاحتلال معاً.
لماذا؟ لا خطر وجودياً على دولة إسرائيل، بل خطر سياسي لدولة فلسطينية على إسرائيل اليهودية.
.. أي خطر السلام على دولة إسرائيل.
أرسل تعليقك