د. خالد الحروب
إذن هو الرحيل الحزين لمن استحق يوما وصف "مثقف المروءة"، انه رحيل المفكر جورج طرابيشي. دماثته على المستوى الانساني ورهافة حسه، زادت دوما من تقديره الكبير الذي ظل يتسع في وجدان من تابعوا عمقه الفكري ومشروعه الابستمولوجي والنقدي الكبير. اجد لزاما علي وعلى سبيل الوداع والإشادة بالراحل ان اعاود الإشارة إليه بتلك السمة النادرة: "مثقف المروءة"، وهو ما لمسه كل من قرؤوا نعيه لمحمد عابد الجابري قبل سنوات، النعي الخلوق والمُتعالي عن الخصومة الفكرية. آنذاك وتعليقا على ما كتب نشرت سطورا اعيد استعارتها وتقديمها كشمعة صداقة ووفاء على نعش الراحل الذي عرفته عن قرب لعقد ونصف.
***
في "العقل الأخلاقي العربي" وهو آخر أهم كتب الجابري ضمن مشروعه الفكري الكبير "نقد العقل العربي" رصد خمسة موروثات أخلاقية متنوعة شكلت ذلك "العقل" كل منها جاء من ثقافة وحضارة وحقبة زمنية مختلفة (من الثقافة اليونانية، والفارسية، والصوفية، والعربية، والإسلامية). قال الجابري إن الموروث الأخلاقي الأهم الذي بقي من المنظومة الأخلاقية لعرب ما قبل الإسلام واستمر كمكون أساسي من مكونات العقل العربي هو "المروءة". بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف مع الطريقة "الجابرية" في صوغ الإشكاليات بطريقة حصرية، يتذكر المرء فضيلة المروءة بنبلها متعدي الحدود الثقافية وهو يقرأ النعي الأخلاقي الرصين الذي كتبه جورج طرابيشي في الجابري إثر رحيل الأخير ونشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية، وهي جريدة الحزب الذي انتمى إليه الجابري سنوات طويلة وكتب فيها بلا انقطاع. يُساق هذا الكلام هنا على خلفية الخصام الفكري الشديد بين الإثنين، والذي تحول في بعض منعطفاته إلى شخصنة غير ضرورية، وهو خصام لم يمنع الطرابيشي من صوغ نعيه الجميل والإقرار بأهمية الجابري، بما رفع من مكانة الإثنين.
يؤكد الطرابيشي على المهمة الكبرى التي قام بها الجابري وتمثلت في نقل الفكر العربي في أواخر القرن العشرين من أسر الأيديولوجيا إلى رحاب الأبستمولوجيا، وهي النقلة التي انتقلها الطرابيشي أيضا مسافراً في أول تحرره الأخير من الأيديولوجيا على مركب "نقد العقل العربي". في بداية تأثره بالجابري يقول الطرابيشي في مقالة النعي أن الرحلة الأيديولوجية الطويلة التي بدأها بالقومية العربية ثم الماركسية، وإلى حد ما التحليل النفسي الفرويدي، كانت مزدحمة بـ "آباء فكريين أيديولوجيين "مؤمثلين" (ميشيل عفلق، ماركس، فرويد، وغيرهم). وبعبوره إلى ضفة الأبستمولوجيا قارئا ومندهشا ومستبطنا "نقد العقل العربي" صار الجابري هو "الأب الفكري المؤمثل" بعد العبور بوابة الإبتسمولوجيا.
لكن رحلة التأثير والانبهار بالجابري أبستمولوجيا انتهت سريعا وقادت الطرابيشي إلى اكتشاف محدودية أبستمولوجيا الجابري وترسباتها الأيديولوجية، وطبيعة إشكاليتها التي تفتح النقاش من جهة لكنها تعيد تعليبه من جهة اخرى في عدد من المقولات أو الثنائيات (أو الثلاثيات)، مثل العرب والغرب، الحداثة والتراث، العقل العرفاني، والعقل البرهاني، والعقل البياني، وهكذا. هذا فضلا عن موقف الجابري الملتبس من العلمانية والغزل الخفي مع الإسلاميين في مراحل متأخرة. المهم هنا هو أن اكتشافات الطرابيشي وخيبة أمله دفعتاه معاً إلى إطلاق مشروع نقدي مواز لمشروع الجابري تمثل في سلسلة كتبه "نقد نقد العقل العربي"، والتي فتحت آفاقا في الفكر العربي المعاصر وسجالاته تفوقت على الآفاق التي جاء بها المشروع الأصلي للجابري في نقده للعقل العربي.
انتبه الطرابيشي لكثير من مسحات الجوهرانية التي تسربت إلى مشروع الجابري، وهي درجات متفاوتة من التمثل الداخلي لعدد من المقاربات الاستشراقية، ونقدها وفككها. كما رفض الوقوع في أسر الإشكاليات التي كان يطرحها الجابري وتبدو في ظاهرها بادية الإحكام وجامعة للأسئلة الكبرى. فجوهر الاستخدام نفسه لوصف "العقل العربي"، مثلاً، يقع في قلب الجدل والخلافية الأبستمولوجية، ويجوهر بشكل ما ماهية هذا العقل، إذ بماذا يختلف "العقل العربي" عن "العقل غير العربي"؟ فهنا لا يستطيع أي وصف مبتسر لـ "العقل العربي" التحرر من أثقال حمولة انثروبولوجية سلبية تضعه في موقف الاتهام والرفض الشديد عند استخدامه وتبنيه من قبل كتاب أو مفكرين غربيين يكتبون عن العرب. طرابيشية "نقد نقد العقل العربي" حررت جابرية "نقد العقل العربي" ونفضت عنها القيود الثقافوية وأطاحت بالحدود المُفتعلة التي أقامتها سواء مع حقب زمنية، أو مفاهيم، أو حضارات اخرى. وهكذا ومن ناحية معرفية وفلسفية وعربية إنسانوية فإن سلسلة "نقد النقد" للطرابيشي أهم بكثير من سلسلة "النقد" للجابري نفسه. ولا يقلل هذا من أهمية ومركزية مشروع الجابري الذي لولاه لما كان مشروع الطرابيشي ابتداء.
درس مروءة المثقف الذي يقدمه الطرابيشي في مقالته الاحترامية والاحترافية في حق الجابري مهم وبالغ العمق. إنه يقول أولا أن الفكر لا يُصقل إلا بالفكر وأن لا مجاملة في صراع الأفكار وتنافسها. كثير من المثقفين والمفكرين تستهويهم فكرة عدم إغضاب الآخرين فكريا، وتفادي التعبير الصريح والموجع أحيانا عن الفكرة والقناعة، بحثا عن الدفء الخادع بالوقوف في الوسط. بيد أن هذا التردد والاستحياء عن نقض الفكرة كليا إن كانت تلك هي قناعة المثقف أو الناقد لا ينتج فكرا ولا يخدم ثقافة. والصرامة والحسم في التعبير عن الفكرة ومصادمة الآخرين بها لا تعني الإقصاء، ولا الشطب الكلي للمختلف معه فكريا وشخصيا. والدرس نفسه يقول ثانيا إن موضوعية المُفكر وتقديره للأفكار والأشخاص والقضايا بالحجم الذي تستحقه، والإقرار بها وبهم، يضاعف من التقدير والاحترام له. لا يخسر المثقف عندما يقدر منافسا له ويعطيه حقا من دون أن يجامله فكريا. بل على العكس تماما يتبدى ذلك المثقف ظافرا وواثقا من نفسه وجديرا بالاحترام. وهذا كله يرقي حقل الثقافة ويُضفي عليه تحضرا مفقودا في سجالات ثقافية كثيرة تنحط بالمنخرطين فيها بسبب شخصنتها البالغة، وتفاقم الاغتيال الفكري والثقافي فيها كواحد من أبرز مكونها. كما يقول ذلك الدرس ثالثا إن سجالات الفكر وطروحاته تقوم كلها في المنطقة الرمادية لإدراك البشر، رغم دفوع المفكرين وشراستهم في التشبث بأفكارهم. وتلك المنطقة يختفي أو يجب أن يختفي فيها ادعاء الوضوح والحسم بالأبيض والأسود. فهنا وفي هذه المساحة الرمادية يزدهر وحده العقل باحثا عن الإجابات المُحتملة، ويقارن ويفاضل بينها بالنسب والدرجات، وليس بالمطلق او القياس الصفري. وكل فكرة من الأفكار حتى لو نُقضت ودمرت تماما فإنها تكون قد قدمت خدمة كبرى للمعمار الفكري والفلسفي الأكبر بكونها استفزت فكرة أخرى لتقوم وتقوضها وتحتل مكانها. أبدع الجابري في التقاط موروث المروءة كواحد من مكونات العقل الأخلاقي العربي، وأبدع الطرابيشي في تمثل هذا الموروث وتطبيقه بأمانة في علاقته مع الجابري أكبر خصومه الفكريين.
أرسل تعليقك