بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
فى ندوة مغلقة مع أصدقاء شرفت بالتعرف عليهم الأسبوع الماضى جاء النقاش حول الديمقراطية، وبدا لى أننا نستخدم المصطلح ليعنى أشياء مختلفة، ومن هنا قررت أن أعيد نشر جزء من مقال سابق عن الديمقراطية وأخواتها.
أزعم أن «الديمقراطية وأخواتها» سبع. هناك الديمقراطية الراسخة المستقرة ولها عناصر ستة، إن غاب واحد منها انحرفت لإحدى أخواتها. وهذا الانحراف يعنى خطوة أو أكثر نحو التسلطية. وهذه العناصر هى:
1- حق التصويت مكفول للجميع بغضّ النظر عن النوع والعرق والدين، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية انتقائية» (شرط الشمول Comprehensiveness condition). وكان المثال على ذلك الولايات المتحدة حتى عام 1920 ثم 1965 وسويسرا حتى عام 1971 وكانتا منعتا المرأة من المشاركة فى الانتخابات وبعض الأقليات الأخرى.
2- منافسة مكفولة لكل القوى السياسية التى تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وإن شاب هذه الخصيصة عيب صارت «ديمقراطية غير تنافسية» (شرط التنافس Competition condition). وعلى هذا فإن منع الإسلاميين المعتدلين فى الدول العربية من الدخول فى الانتخابات بحجة أنهم جميعاً إرهابيون أو منع العلمانيين من الدخول فى السباق من أجل مقاعد البرلمان فى إيران أو السودان ينال من شرط التنافسية.
3- احترام الحقوق المدنية، وإلا تتحول إلى «ديمقراطية غير ليبرالية» (شرط الليبرالية Liberalism condition). وهو مثال نظامَى الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا وناميبيا، حيث كانت تُجرى انتخابات حرة ونزيهة وتداول سلمى للسلطة بين البيض فى ظل غياب واضح للحقوق والحريات المدنية لقطاع واسع من المواطنين الأفارقة.
4- وجود تعدد لمراكز صنع القرار، بما يتضمنه هذا من مساءلة ومسئوليات متوازنة، وإلا تحولت إلى «ديمقراطية انتخابية» (شرط المساءلة Accountability condition). والمثال على ذلك روسيا الاتحادية تحت ظل الرئيسين يلتسن وبوتين، حيث تُجرى انتخابات فيها درجة واضحة من التنافس، بيد أنها لم تضع أياً منهما تحت مسئولية حقيقية أمام البرلمان أو حتى العودة إليه فى كثير من القرارات.
5- قبول جميع القوى السياسية لقواعد اللعبة الديمقراطية بغضّ النظر عن نتائجها وإلا تحولت إلى ديمقراطية غير مستقرة (شرط الاستدامة Sustainability condition). فالتاريخ شهد عدداً من القوى السياسية التى وصلت إلى سدة الحكم فى انتخابات حرة نزيهة أو بوعود بإقامة نظم ديمقراطية، لكنها لم تفِ بوعودها مثل هتلر فى ألمانيا النازية أو جبهة الإنقاذ فى الجزائر أو نظام حكم مشرف فى باكستان؛ فمع انتفاء شرط الاستدامة تنتفى قدرة الديمقراطية على إنتاج آثارها الإيجابية.
6- المصدر الوحيد للشرعية هو أصوات الناخبين ولا يقبل الناخبون بغير أصواتهم الحرة مصدراً للشرعية وإلا تحولت إلى ديمقراطية نخبوية أو ديمقراطية بلا ديمقراطيين (شرط الثقافة الديمقراطية Democratic Culture condition). فالتاريخ يشهد بالعديد من حالات التراجع عن الديمقراطية بعد إقرارها لصالح نخب عسكرية تتبنى شعارات شعبوية مثل مصر والعراق فى أعقاب الحقبتين الليبراليتين تحت الاحتلال والأرجنتين والبرازيل فى السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. إذن الديمقراطية الراسخة المستقرة هى التى تجمع العناصر الستة. وحقيقة فإن أدبيات علم السياسة زخرت بنقاشات مستفيضة بشأن إطلاق لفظة ديمقراطية على نظام حكم يفتقد واحداً من هذه العناصر. فهناك من يرى أن الديمقراطية إما أن توجد أو لا توجد. فما قيمة «ديمقراطية» مع غياب تنافس حقيقى بين القوى السياسية التى يتكون منها المجتمع بسبب سيطرة حزب واحد على الحكم عن طريق التزوير والترهيب، وما هى جدوى إطلاق لفظة «ديمقراطية» على نظام حكم تأبى قواه السياسية احترام إرادة الناخبين إذا أتوا بمنافسيهم إلى الحكم؟ ورغماً عن وجاهة الطرح السابق، فإن منطق «إما ديمقراطية أو لا ديمقراطية» له قيمة معيارية مفيدة لكن قوته التحليلية ضعيفة. فلا يمكن أن توضع نظم مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا الاتحادية وإيران ودول الخليج والعراق والجزائر فى نفس الخانة لأنهم لا يملكون عنصراً واحداً أو أكثر من العناصر السابقة.
كل ما سبق من معايير يبقى نظرياً حتى يُختبر النظام السياسى فيثبت نجاحه أو فشله. ومن أمثلة الاختبارات القاسية التى مرت بها دولة مثل الولايات المتحدة، التى فى ديمقراطيتها الكثير مما يستحق الانتقاد قطعاً، هو جدل الانتخابات الأمريكية فى عام 2000 حيث فاز «آل جور» بأغلبية الأصوات العددية لكنه وفقاً للدستور الأمريكى فإن توزيع الأصوات بين الولايات هو الفيصل فى الفائز فى الانتخابات. ولأن تقليد تداول السلطة فى الولايات المتحدة مستقر منذ أن قرر الرئيس الأول جورج واشنطن ألا يترشح لمنصب رئيس الجمهورية أكثر من مرتين، فظلت باقية فى عقبه، فإن هذا التقليد قد رسّخ فى أذهان الأمريكيين احترام مؤسسات الدولة حتى وإن اختلفوا مع توجهها. وعليه فقد وقف مؤيدو آل جور على أحد جانبى الشارع ووقف أنصار جورج بوش على الجانب الآخر ينتظرون جميعاً حكم المحكمة الدستورية فى فلوريدا ثم فى المحكمة العليا فى العاصمة واشنطن دون طلقة رصاص واحدة أو إغلاق أى طرق أو التهديد باللجوء للعنف أو إعلان الحرب المقدسة على أحد، بل ويعلن المرشحان المتنافسان أنهما سيحترمان حكم المحكمة أياً كان، وقد كان. ومن هنا كانت المؤسسة أقوى من الفرد لأن الفرد له دور وله مدة أما المؤسسة فلها وظيفة ولها ديمومة. هل وقع ظلم على «آل جور»؟ طبعاً وقطعاً ويقيناً، وهذا أمر لا مجال للخلاف بشأنه، ولكن يبدو أن ثقافة مجتمعهم تجعل الشخص يتعود على احترام القانون والقضاء حتى لو اعتقد أنهما ظالمان ليس بسبب القمع، ولكن بسبب الحرص على ألا تحدث فتن تنال من استقرار الدولة. هناك توجد ديمقراطية، ويوجد ديمقراطيون، على عيوب فى التطبيق. أما فى معظم دول منطقتنا العربية، فهناك كلام عن الديمقراطية من أشخاص غير ديمقراطيين يتعاملون مع الديمقراطية بانتهازية تجعل من الملائم التفكير فى إضافة نوع جديد لوصف ديمقراطيتنا الناشئة: «الديمقراطية الانتهازية».
المصدر: صحيفة الوطن
أرسل تعليقك