بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
حضرت بالأمس خطبة جمعة تبين لى أنها موحدة، لأن أكثر من صديق حدثنى عنها، والموضوع كان جيداً من حيث المبدأ وهو مكانة مصر فى الإسلام وفى تاريخ المسلمين، ولكن زاوية التناول كانت أضعف مما ينبغى أن يكون، أو على الأقل كان هذا فى المسجد الذى حضرت فيه صلاة الجمعة بالأمس، وهو ما ذكرنى بمقال قديم لى كان بعنوان: خطبة جمعة، قلت فيه:
رأيت فيما يرى النائم خطيباً يصعد منبراً ويخرج من فمه كلامٌ تذكرت بعضه فسطرته فى كلمات أنقلها إليكم، عباد الله، إن المسلمين مأمورون بتلاوة القرآن وتدبر آياته، وقد جئت إليكم اليوم بثلاث آيات عظيمة من كتاب ربنا عز وجل؛ فهى رسائل من رب العالمين إلى العالمين، جعلنى الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصرفنى الله وإياكم عمن قال فيهم: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون»، الآية الأولى هى قول الحق سبحانه: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْماً» (طه، 114) وهى آية تبدو كمحصلة لمجموعة من الآيات الأخرى، التى تأخذ شكل نظرية مترابطة، تحملنا مسئولية البحث عن العلم والاشتغال به على النحو التالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا + وفوق كل ذى علم عليم + هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون + يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات = وقل ربى زدنى علماً.
ولتطبيق هذه المعادلة القرآنية على أرض الواقع يأتى قول الرسول الكريم: «طلب العلم فريضة» و«لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم، حتى إذا قال علمت فقد جهل».
الآية الثانية تقول: «رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (الممتحنة، 5) وهو دعاء يحمل فى طياته المعنى التالى: أى يا رب لا تجعلنا دليلاً يتخذه الكافرون على صدق كفرهم وكذب إيماننا فنكون سبباً فى تحول الناس عن دينك لأنهم ما عرفوه إلا لأنهم عرفونا، فبدلاً من أن نكون هداة مهتدين نكون ضالين مضلين. تذكرت هذه الآية عندما قرأت كلام الشيخ محمد الغزالى: «إن المسلمين جدار سميك بين العالمين ودينهم»، أى إن المسلمين، بسوء سلوكهم يقفون حائلاً بين تعرف غير المسلمين على صحيح الإسلام، تذكرت هذه الآية وأنا أجمع المادة العلمية لكتابى عن المسلمين والديمقراطية لتكون المفاجأة أن ثمانين بالمائة من المسجونين السياسيين فى العالم (أى بسبب آرائهم السياسية) مسلمون، وأن الدول العربية تحديداً مسئولة عن أكثر من خمسين بالمائة من النظم غير الديمقراطية فى العالم، فلو أراد أحد ساكنى المريخ أن يتخير ديناً من ديانات الأرض بالنظر فقط إلى أحوال أتباع كل دين، فأغلب الظن أنه لن يختار الإسلام. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا.
تذكرت هذه الآية الكريمة أثناء حوارى مع طالب دكتوراه من اليابان طلب منى أن أقرأ جزءاً من رسالته، فروى لى بعض ما واجهه من صعاب أثناء زيارته لبعض الدول العربية وكيف أنه خرج بانطباع سلبى عن الإسلام (وكان الأحرى أن يحصر انطباعه فى حدود العرب) بما انعكس بوضوح فى رسالته، وكان مطلوباً منى أن أقول له إن الإسلام عظيم وأغلب المسلمين لا يتصرفون بوحى منه، وأن اعتزازهم به لا يعنى التزامهم بآدابه ولكن هيهات: وكأن لسان حاله يقول إذا لم يكن الإسلام قد نفع المسلمين فى شىء فكيف ينفع الآخرين؛ فكيف يستقيم الظل والعود أعوج.
تذكرت هذه الآية وأنا أطالع مقال الدكتور علاء الأسوانى فى «الشروق»: «هل يعتبر تزوير الانتخابات من الكبائر؟» فى ضوء حقيقة أن مجتمعاتنا العربية لا تعرف الانتخابات النزيهة إلا فى ظل الاحتلال، مع الأسف، لأننا تحكمنا قيادات مزورة تخشى نزاهة الحقيقة.
الآية الثالثة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل، 90)، فى هذه الآية العظيمة يبدأ الله أمره لنا بالعدل، وكأنه الحد الأدنى لعلاقة الإنسان بالآخرين، ويذكر فى عقبه الإحسان وهو تعجيل الخير وهى منزلة أعظم ولا شك، فالعدل يعنى القسط والموازنة وعليه «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به»، لكن للإحسان نصيب «ولئن صبرتم لهو خير للصابرين» فمن العدل قوله تعالى: «وجزاء سيئة سيئة مثلها» ولكن من الإحسان «فمن عفا وأصلح فأجره على الله».، ومن العدل «والجروح قصاص»، ومن الإحسان «فمن تصدق به فهو كفارة له».
ولذى القربى نصيبهم لأنهم يقعون فى دائرة مسئوليتنا المباشرة أكثر من هؤلاء الذين باعد بيننا وبينهم المكان أو الزمان أو النسب، فما دون العدل ظلم وجور وكذب وخيانة وفحشاء ومنكر وبغى، وكل هذا ليس من الإسلام، أما ما فوق العدل من إحسان وكرم وتفضل وعفو وصفح وبر بالآخرين فهو من كمال الإسلام بل من الإيمان الذى وقر فى القلب وصدقه العمل، وعليه حين قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار فقد قاتلهم بالعدل، وحين عفا عنهم فى فتح مكة فقد عفا عنهم بالإحسان وما كان ليظلم أو يبغى، وكذلك حين رفض ابن الخطاب أن يعطى لبعض ضعاف النفوس من الأعراب سهم المؤلفة قلوبهم فكان يتصرف بالعدل، وحين أمر لليهودى العجوز من بيت المال، فكان من العدل لأنه ليس من العدل أن يأخذ منه الجزية فى شبابه ويحرمه فى شيخوخته، وكذا حين رفض أن يصلى فى كنيسة القيامة حتى لا يتخذها المسلمون من بعده مسجداً، وحين احترم المسلمون حقوق الآخرين فى بناء دور العبادة، فكان من العدل لأنه لا إكراه فى الدين، وحين تبادلوا معهم التهانى فى أعيادهم فكان من الإحسان وهذا هو جوهر قول الحق سبحانه «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة، 8).
فالله يقول إن الذين يعيشون معنا ولم يقتلونا أو يخرجونا من ديارنا لهم أن نتعامل معهم بالبر (وهو من مراتب الإحسان) وكأننا نعجل لهم الخير مثلما هو حالنا مع بر الوالدين، وإن لم نكن بهذا القدر من الإحسان، فعلى الأقل فلنكن عادلين ومن العدل أن يكون لهم حقوق كما لنا حقوق غير منقوصة. اللهم اجعلنا من أهل العدل والإحسان.
أختم بما قلته فى حضرة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بأن تجديد الخطاب الدينى يبدأ من الواقع وليس من النص. مصر والأمة الإسلامية الآن تواجه عشرة تحديات وينبغى أن يعمل الخطاب الدينى على معالجتها، هذه التحديات هى: الجهل، الفقر، المرض، التكفير، الإرهاب، الإهمال، الاستبداد، الفساد، الادعاء، الإنجاب بلا حساب.
أرسل تعليقك