بقلم - معتز بالله عبد الفتاح
كتب مواطن عراقى عن خبرته بعد أن استقر به الحال فى النرويج ما يلى:
قبل يومين، شعرت بالانتماء إلى النرويج والرغبة فى البقاء فيها والتعرف على طفلتى وهى تكبر تحت ثلجها ومطرها.
الشعور بالانتماء شىء غريب وهو شعور لم يتملكنى منذ سنوات طويلة حتى إننى لا أتذكر آخر مرة انتابنى فيها ولا أتذكر طعمه أو لونه لكنه هذه المرة كان عذباً جداً.
كنت قد دعوت جارنا الجديد مع زوجته إلى الغداء لكنه أخبرنى أن زوجته سافرت لزيارة والدها فقلت له إننا نتمنى قضاء الوقت معه والترفيه عنه فى وحدته، وجاء فى الموعد المحدد ثم وقفنا معاً لتحضير الطعام على النار فى الحديقة ودخلنا إلى البيت ثم أكلنا ونحن واقفون لأننا لم ننقل أثاث بيتنا بعد.
بعد حوار شيق عن الأشجار التى تحيط البيت وكيف تأتى السناجب وتتسلق إلى أعلى الشجرة لتجلس وتتمتع بضوء الشمس، قال جارنا إن هذا الشارع من الشوارع القديمة فى المدينة والبيت الذى اشتريناه أحدث البيوت رغم أنه بنى فى عام أربعة وستين.
سألته زوجتى عن أقدم بيت فى الشارع فقال «لماذا لا نقف فى الحديقة وسأخبركم عن تاريخ البيوت وساكنيها؟»، وحين نزلنا أشار إلى بيت أبيض وقال «هذا أقدم بيت ومن يسكنه اليوم رجل أكمل مائة عام وكان يعمل فى إدارة السكة الحديد وتقاعد وهو فى الستين من عمره وحين التقيته آخر مرة قال إنه سيكون حامل الرقم القياسى فى سنوات التقاعد لأنه متقاعد منذ أربعين عاماً. والبيت المقابل لبيتنا كان ملكا لرجل إطفاء وابنه هو الآخر رجل إطفاء لكنهم انتقلوا من البيت واشتراه أستاذ موسيقى مع زوجته وهى أيضاً موسيقية».
تنقل جارى بين تاريخ البيوت ومن كان يسكنها فى السابق ومن يسكنها اليوم ودرجة علاقته بكل عائلة وفرد، واعترض على أحد الجيران قائلاً إنهم كانوا يحتفلون إلى ما بعد منتصف الليل ويتسببون بالإزعاج والضوضاء لكنهم رزقوا بطفل وتوقفوا عن احتفالاتهم.
قصة شارع واحد مع محبة الجار الذى سردها لنا جعلتنى أشعر بالانتماء وأفهم أننا حين ننتمى فنحن ننتمى إلى أجزاء صغيرة جداً من المجتمع والبلد؛ ننتمى إلى جار طيب وشارع نحبه وصديق يسامرنا وزوج يحبنا وطفلة تشاركنا حياتها ومسئول عمل منصف.
فى الأمس وأنا أكلم صديقة فى بغداد قالت «لم يبقَ من أصدقائى وصديقاتى أحد فكلهم هاجروا، ولم يبقَ لدى جارة تزورنى، وأولادى تركوا العراق وشوارع المدينة مقفلة والتنقل من منطقة إلى أخرى مخاطرة».. هكذا وبكل بساطة انتهى شعور صديقتى التى قاربت الستين من عمرها وهى ابنة بغداد بالانتماء إلى مدينتها لأن تلك العلاقات الصغيرة والقريبة انتهت. هذا ما تفعله الحروب وما يفعله الطغاة، هم يقتلون شعورنا بالانتماء.
حين كنت طفلاً علمتنى مدرستى أن الوطنية هى الموت فى سبيل الوطن، لكننى سوف أعلّم ابنتى أن الوطنية هى محبة الشارع والجار والتفانى فى إسعاد الأهل والأصدقاء والارتقاء قدر المستطاع بالذات وزرع شجرة فى حديقة. سوف أعلمها أن الوطنية الحقيقية لا تقتصر على حدود مكان واحد بل هى خير عالمى وكونى وعابر للأجناس والأنواع.
أرسل تعليقك