آخر تحديث GMT 08:03:06
اليمن اليوم-

"انطاح علينا"

اليمن اليوم-

انطاح علينا

بقلم : عريب الرنتاوي

لم أكن قد أتممت العاشرة من عمري، عندما استيقظت مذعوراً ذات صباح باكر، على وقع جلبة في البيت، يتصاعد ضجيجها على وقع أصوات الرجال الصاخبة وصيحات النساء في المنازل المجاورة ... استيقظ أبي رحمه الله في الأثناء، وهو الذي اعتاد أن يقضي الهزيع الأول من الليل يغرف ما تيسر له من بطون كتب، على ضوء "لمبة الكاز" التي طالما حرص على وضعها على مقربة من رأسه: "انطاح علينا"، كانت هذه أولى كلماته، في إشارة إلى أننا تعرضنا للسرقة.

خرجنا نبحث عن "الحرامي"، فإذا بالحارة عن بكرة أبيها تبحث عنه/م، من دون جدوى ... لكنهم خلفوا وراءهم أكداساً من المقتنيات، بدأنا بفرز المسروقات المتناثرة هنا وهناك، وعرضناها أمام سكان الحي للتعرف على مقتنياتهم ... سارع أبي لالتقاط الصور القليلة التي تمتلكها العائلة، والتي كانت منثورة في "الزاروب" الخلفي لبيتنا، تدوسها الأقدام من دون عناية ... وأخذت أمي تبحث في ركام المسروقات، فوجدت معطف أبي الشتوي "الكبوت" ملقى فوق تلة من الحجارة، والحقيقة أنني كنت أمقت ذلك "الكبت"، وتمنيت في قرارة نفسي، لو أن "الحرامي" أفلت به، فقد كنت أستيقظ في ليالي البرد القارص والظلام الدامس في مخيم الوحدات، فإذا بـ "شبح أسود" ينتظرني متراقصاً عند باب الغرفة، ولطالما احتجت لبضع دقائق، تمر كالساعات، قبل أن استعيد وعيّ، وأدرك أن ذاك الشبح المرعب، لم يكن سوى "كبوت" أبي المعلق بمسمار خلف باب الغرفة.

بدأت أمي تسترجع ملامح وجهها، وأخذت الدماء تجري في عروقها المتجمدة، فقد استعادت ثلاث مخدات من النوع المخصص للضيوف، ولا يحق لنا في مطلق الأحوال، استخدامها أو لمسها ... كانت مكسوة بـ"فتة بيضاء"، منقوش عليها بعض التطريزات اليدوية، غالباً تحاكي وروداً لم أتعرف على أصلها في الطبيعة، أما جوانب "المخدات" فكانت أمي تحرص على "تلفيعها" بقطع من "الساتان" الأحمر والأزرق، لا ألوان أخرى صادفتها في طفولتي وشبابي المبكر لهذا "الساتان".

كان من السهل التعرف على "كبوت" أبي ومخدات أمي، الأول يتميز بأزراره الخشبية الناتئة، وتطريز أمي على المخدات كان فريداً، لا يشبهه تطريز آخر، أقله في حينها ... لكن المشكلة كانت في اختلاط "بوابير" الكاز، التي جمع الحرامي، أو بالأحرى عصابة الحرامية، عدداً وافراً منها، فجميعها متشابه، ومعظمها "نمرة 3"، لكن صاحب البابور "الأخرس" كان محظوظاً، فضلاً عن كونه محظياً بذاك "البابور" الذي كان نزل للتو إلى الأسواق، وبسعر أعلى، نظير قدرته المدهشة على كتم الأصوات المدوية التي اعتدنا عليها، عند إشعال البوابير العادية، سيما بعد أن "تحمى" وتعمل بأقصى طاقتها، يساعدها على ذلك، وجود عدد من "إبر البوابير" ذات القدرة العجيبة على تسليك ممر الكاز وبخاره.

انتهت "غزوة المخيم" على سلام، لم يُلق القبض على الجناة، الذين أجمعت الروايات على أنهم "غرباء لا يشربون القهوة"، وبإحصاء سريع للخسائر، تبين أنها لم تزد عن بضعه دنانير، عثر عليها اللصوص في جيب أحد "الجاكيتات" المسروقة... لكن الحديث عن تلك الغزوة لم ينقطع لسنوات عدة لاحقة، وأضيفت إليها فصول من "البطولة" في التصدي للصوص ومقاومتهم ومحاولات تسليمهم لمخفر الشرطة، لولا صدف حمقاء، حالت دون ذلك بالطبع.

غادرت المخيم عن عمر يناهز الثانية والعشرين عاماً، قضيتها في زواريبه وأزقته الضيقة، لكن حكايات الحرامية والمتلصصين لم تنقطع يوماً ... ذات يوم، اندلعت إشاعة قوية في المخيم ومدارسه المكتظة بألوف الطلاب والطالبات، مفادها أن ثمة عصابة متخصصة بسرقة "حبال الغسيل"، فما أن تنتهي النسوة من غسل أكوام الثياب المتسخة، وتعليقها على حبال الغسيل المكشوفة لتجفيفها وتعريضها للشمس والهواء، حتى يهرع "لصوص حبال الغسيل" لجمع ما غلا ثمنه وخف وزنه، وتضاءل حجمها ... والحقيقة أن القصة، وما رافقها من أعاجيب وروايات غامضة، أثارت فضولي لتفحص حبال الغسيل في طريق الذهاب والعودة للمدرسة ... دهشت عندما رأيت أن نصف المعلق على الحبال من ملابس، تحتفظ بالإشارة ذاتها: "هدية من شعب الولايات المتحدة إلى اللاجئين الفلسطينيين"، وهي العبارة التي كانت تكتبها وكالة الإنماء الأمريكية، على أكياس الطحين المرسلة للأونروا، قبل ان يقرر ترامب قطع المساعدات عنها، وكانت نسوة المخيم، تستغل الأكياس الفارغة، فتحيكها ملابس داخلية "كلاسين" كما كانت تسمى ذاك الوقت، قبل أن يصبح أسمها "بوكسرات" أو "أندرويرز" أو "كيلوتات"، لكن ختم الوكالة الأمريكية كان عصياً على الإمحاء، حتى باستخدام الصابون النابلسي او "سيرف" أو "تايد"، فيظل عالقاً على مؤخراتنا إلى أن يذوب القماش ويتهرأ لفرطاستخدامه وغسيله .... هذا النوع من الألبسة الداخلية، اختص به الذكور في المخيم، أما الإناث، فكن يستخدمن أقمشة من مشتقات "الساتان" متعدد الألوان، وكان حبل الغسيل الواحدة، الممتد بطول عدة أمتار، لا يتسع لأكثر من ثلاثة أو اربع قطع من هذا النوع، يبدو أن نساءنا عانين فرط السمنة في تلك الأزمنة، بخلاف زمننا الحاضر.

ما الذي يدفع هؤلاء اللصوص للسطو على ملابسنا المكتوب عليها "ليست للبيع أو المبادلة"؟ ... لم ننشغل بالإجابة على السؤال، وانصب تفكيرنا الإيجابي، بالبحث عن طرق لتأمين حبالنا وحفظ ملابسنا من السرقة، وإبعاده عن عيون الفضوليين.

ولأن روح سيجموند فرويد، كانت تزور مخيمنا بين الحين والآخر، فقد سرت إشاعة ثانية، مفادها، إن ثمة عصابة من اللصوص تختص بسرقات الثياب النسائية الداخلية، هنا تدخل المسألة في حيز "الشرف"، حيث يسهل إراقة الدماء أنهاراً ... لم يثبت أن اعتداءً واحداً قد حصل لسين أو صاد من الناس، لكن الشائعة كانت كافية، لمنع النساء والبنات من نشر ثيابهن الداخلية على الحبال، والاكتفاء بنشرها في زوايا البيت وقرب "الصوبة" في ليالي الشتاء، فالمسألة خرجت من طور السرقة، إلى صميم الشرف.

ليس في ذاكرة السنوات العشرين الأولى من عمري قصصاً أخرى عن السرقة غير هذه التي شاركتكم بها... اليوم تبدو الصورة مختلفة تماماً، واجد صعوبة في مواكبة "تطور السرقة" في الأردن، من حيث أهدافها وأدواتها وتكنيكها" ... نستيقظ على سطو مسلح لأحد البنوك، وننام على روايات تتحدث عن سطو "ذكي" على حساباتنا وعمليات احتيال على الميسورين منا ... لم تعد أخبار السرقة تثير الضحك عندما، أو الضحك علينا، باتت تثير القلق وتستدعي الاستنفار ... ولم يعد حديث السرقات والمسروقات مادة للسمر في ليالي الشتاء الطويلة والمملة، بل بات قضية أمن وطني، ينخرط في بحثها الأمن بمستوياته وأجهزته المختلفة، ويتداعى لدراساتها علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية ... لم تكن ردود أفعالنا تتعدى البحث عن "المخدات والبوابير" المسروقة، لتتبعها قصص وحكايات لا تنتهي، وفي كل مرة تقال فيها، تتعرض لمزيد من التنقيح بالحذف والإضافة، اليوم يبدو الحديث الساخر أو المندهش بتكنيك السرقات، أمراً مثيراً للقلق، وقد يستدعي المحاسبة والمساءلة القانونية ... لقد تعقدت حياتنا بأكثر مما ينبغي، ومن حق بعضا أن يردد صادحاً من سيدة الغناء العربي: عاوزنا نرجع زي زمان ... قل للزمان أرجع يا زمان".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انطاح علينا انطاح علينا



GMT 04:34 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

حرائق أوروبا مظهر لمخبر

GMT 16:49 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

رسالة الى حزب الله وماذا عن الشيعة المستقلين؟

GMT 04:49 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

أرض العلم

GMT 04:44 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران... قراءة في تفاصيل الأزمة

GMT 04:40 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

احذروا «يناير 2019»
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 19:40 2019 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج في كانون الأول 2019

GMT 16:26 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 21:46 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

تزداد الحظوظ لذلك توقّع بعض الأرباح المالية

GMT 22:16 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 05:53 2024 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

اتجاهات موضة الديكور في غرف الطعام هذا العام

GMT 06:16 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

ضغوط مختلفة تؤثر على معنوياتك أو حماستك

GMT 17:30 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 21:15 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الأيام الأولى من الشهر

GMT 22:55 2019 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:05 2019 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج في كانون الأول 2019

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 17:17 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 16:11 2019 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برجفي كانون الأول 2019

GMT 15:05 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الخطيب يعلن نيته تحصين الأهلي من سيطرة رجال الأعمال

GMT 13:20 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مليشيا الحوثي تقصف عشوائيا قرى مريس بالضالع

GMT 19:02 2016 الخميس ,17 آذار/ مارس

النني .. مدفعجي أرسنال الجديد

GMT 19:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

اخبار جيدة ورابحة في هذا الشهر
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
alyemen, Alyemen, Alyemen