بقلم : عريب الرنتاوي
من "يخرب بيتك يا ترامب" إلى "ابن الكلب" فريدمان، بدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس "غاضباً" و"حانقاً" كما لم يظهر من قبل، بل ويمكن القول أن "أبو مازن" فقد القدرة على التحكم بطاقة الغضب التي تجتاحه جراء "صفعة القرن"، وبلوغ الصفاقة في سلوك وأداء السفير الأمريكي لدى إسرائيل، المستوطن ابن المستوطن، ديفيد فريدمان، حداً غير محتمل.
في الشكل، خرج الرئيس عن مألوف الخطاب الدارج على ألسنة السياسيين والدبلوماسيين، دع عنك رؤساء الدول والحكومات ... أما في المضمون، فلم يقل الرئيس شيئاً يختلف عليه اثنان من الفلسطينيين، فما يجري حياكته من حولهم، من دسائس ومؤامرات، لا تفسير لها ولا معنى، سوى أنها محاولة جادة لتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على تطلعات الشعب الفلسطيني وأشواقه للحرية والاستقلال.
وفي الشكل والمضمون معاً، أغلق الرئيس عباس بإحكام، الباب أمام مبادرة ترامب، فلن يكون سهلاً بعد اليوم، لا عليه ولا من سيليه في مرحلة "ما بعد عباس"، أن يهبط بسقف المواقف والتطلعات الفلسطينية، أو يقفز من فوق خط واحد من خطوطها الحمراء ... ما يترك الباب مفتوحاً أمام واشنطن لواحد من خيارين: إرجاء الكشف عن الصفقة إلى مرحلة "ما بعد عباس"، وهذا خيار جرى بشأنه حديث كثير في الآونة الأخيرة، أو إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لاستعجال "العناية الإلهية" كما فعل جورج بوش الابن مع أرييل شارون بخصوص الراحل ياسر عرفات.
محمود عباس، يدرك ذلك أتم الإدراك، بيد أنه كما يتضح من مواقف وسلوكه في الأشهر الأخيرة، لا يخشاه ... فالرجل الذي ندداً بأشد العبارات بعمليات حماس "الانتحارية"، يسلك هذه الأيام، سلوكاً "انتحارياً" في السياسة، أقله على المستوى الشخصي، والبعض يقول على المستوى الوطني كذلك.
في "خطبتي الوداع" المتعاقبتين، أمام المجلسين: المركزي للمنظمة والثوري لفتح، تحدث الرئيس عن "اللقاء الأخير"، مشدداً على أنه "لن يختتم حياته بخيانة" ... مثل هذا الكلام، لا يحتاج تعليقاً، ويشف عن "الحالة النفسية" التي يمر بها الرئيس في هذه الفترة، وهي وإن كانت مفهومة لزعيم راهن طيلة حياته على خيار التسوية السياسية والحلول التفاوضية، قبل أن يستيقظ على انهيار "بناء سنمّار"، إلا أن "الغضب" لا يمكن أن يكون مصدراً لصنع السياسات واتخاذ القرارات.
وإذ استهل الرئيس حديثه في اجتماع القيادة الفلسطينية، أمس الأول، بفتح نيرانه الكثيفة على حركة حماس والمتحالفين معها والمتواطئين مع روايتها والواقفين على مسافة واحدة بينها وبين فتح والسلطة، فقد كان جلياً، أن الباب قد أوصد بإحكام أمام مشروع انهاء الانقسام واستعادة المصالحة، وأن الرجل مقبل على اتخاذ كبرى ضد حماس في غزة، والتي – من أسف – ستطاول بتداعياتها و"شظاياها" المعذبون على أرض القطاع المعزول والمحاصر.
وستطاول شرارات الخطاب العاصف، مصر ذاتها، صاحبة المبادرة في استئناف جهود المصالحة، عرابها وراعيتها ... فالرئيس وضع المصالحة في سياق التهيئة لمشروع ترامب و"صفقة القرن" بما يوحي بأن القاهرة متورطة ضمناً في هذه "الصفقة" والتحضيرات الجارية لتمريرها، ولا ندري كيف ستكون ردة الفعل المصرية، وما الوجهة التي ستتخذها القاهرة حيال هذا الملف.
في هجومه الساحق على حماس ومرجعيتها الإخوانية الأوسع، حار المراقبون في فهم دوافع الرئيس واختلفوا حول الأسباب التي حدت به لإطلاق النار "رشاً ودراكاً" على حماس ... منهم من قال أن لدى الرئيس ما يثبت وقوف جهات قيادية وازنة في حماس وراء العملية النكراء، وهذا ما سبق لمسؤولين أمنيين فلسطينيين أن تحدثوا به وعنه ... ومنهم من قال أن الرئيس يريد إغلاق الباب أمام مشروع "دويلة غزة" التي بدأت تتسلل إلى عقل وتفكير إدارة ترامب، قبل مؤتمر واشنطن الأخير، وصحوتها المتأخرة على "الكارثة الإنسانية" في القطاع، بمدة طويلة، وذلك من خلال ترك القطاع لحماس، ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: خنق القطاع والاختناق به ومعه، أو التساوق مع محور عربي أخذ على عاتقه أمر تهيئة الطريق أمام "صفقة القرن".
في كل الأحوال، يبدو أننا نقترب بتسارع مذهل، من مرحلة "ما بعد الرئيس محمود عباس"، وقد لا تبدو هذه المرحلة مرهونة بتدخل "العناية الإلهية" أو استعجالها، بل قد تبدأ بمبادرة من الرئيس ذاته، فهل تكون دورة المجلس الوطني الفلسطيني المقررة في مختتم نيسان / أبريل القادم، بداية هذه المرحلة؟ ... سؤال لا جواب عنه، إلا عند رجل واحد: محمود عباس.
أرسل تعليقك