القناعة السائدة لدى أوساط واسعة من الفلسطينيين، أن الولايات المتحدة، تسعى في اختصار فلسطين بغزة، واستتباعاً، الحل السياسي بالحل «الإنساني»، وهذا ما أوضحه صائب عريقات في تعليقه على مهمة كوشنير وصحبه، في تحايل مكشوف على القانون والإجماع الدوليين على أسس الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وفقاً لتعبير حنان عشراوي.
لا شك أن الوضع الإنساني لقطاع غزة وأهله، لامس منذ زمن ضفاف «الكارثة الإنسانية المحدقة»... ولا شك، أن التفكير بحلول «إنسانية» للأزمة الإنسانية، يبدو أمراً عاجلاً، وعلى درجة قصوى من الإلحاح، وليس ترفاً فائضاً عن الحاجة أبداً، سيما وأن آخر «متنفس» لأهل القطاع من اللاجئين، معرض للانسداد، بعد إعلان «الأونروا» نيتها وقف رواتب العاملين فيها وتقليص الخدمات المقدمة للسكان... يبدو أن السلطة ليست وحدها، من يقطع الرواتب أو يقلصها، المنظمات الدولية تفعل ذلك أيضاً تحت ضغط العجز المتراكم في موازناتها.
واشنطن تعرف تمام المعرفة، حقائق الوضع الإنساني المتردي في القطاع، وهي لم تكترث به أبداً، برغم تفاقمه وتزايد حدته، بل كانت بدعمها لإسرائيل ودفاعها عنها في مختلف المحافل وبشتى الطرق، شريكة في المسؤولية مباشرة عن «كارثة غزة الإنسانية»... بيد أنها، ولدوافع سياسية معروفة، إسرائيلية بالأساس، بدأت تثير «المسألة الإنسانية» كما لم تفعل من قبل، وهي خصصت لها جلسات «عصف ذهني» في البيت الأبيض، وبمشاركة دول عديدة، ليست السلطة من ضمنها... واليوم، تدور مهمة كوشنير وصحبه، حول «غزة أولاً»، وفي إطار التهيئة لـ»صفقة القرن»، بل وربما تصبح غزة، وغزة وحدها، هي صفقة القرن، من ألفها إلى يائها
هي إذن معضلة، يتعين على العقل الفلسطيني اليقظ والواعي، أن يفكك ألغازها، فمن جهة أولى تبدو غزة بأمس الحاجة للإغاثة الإنسانية العاجلة، ومن جهة ثانية، تبدو «القناة الإنسانية» مرشحة أكثر من غيرها، لتمرير «حل تصفوي» للقضية الفلسطينية، فتحت عباءة المساعدات وإعادة الإعمار وتوفير فرص العمل، وتأمين الماء والكهرباء، ومشروعي المطار والميناء، تتخفى أكثر المبادرات ومشاريع الحلول، خطورة على الشعب الفلسطيني وكفاحه العادل وقضيته الوطنية وحقوقه المشروعة، فما العمل حيال أمر شديد التشابك كهذا، وكيف يمكن فصل «السياسي» عن «الإنساني» في المقاربات الأمريكية – الإسرائيلية، التي يجري التبشير بها والترويج لها؟.
تستطيع سلطة الأمر الواقع في غزة، أن «تركب رأسها» وأن تراهن على الورقة «الإنسانية» لاستدراج مكاسب «سياسية» في القطاع المحاصر والمجوّع... من دون أن تجد نفسها مضطرة للتخلي عن «لاءات الخرطوم الثلاثة»: لا صلح لا تفاوض ولا اعتراف... والأرجح أن أحداً لن يطلب منها أمراً كهذا، بل والأرجح أن أحداً لا يريد أن يتفاوض أو يتصالح معها أو أن يعترف بـ»شرعيتها»... كل ما هو مطلوب من حماس، هو أن تحفظ أمن القطاع في «هدنة» متطاولة وبعيدة المدى، وأن تقبل بخضوع القطاع لآليات التحقق والتفتيش والرقابة، وأن توكل أمر إدارة القطاع، لهيئة مدنية مقبولة من المجتمع الدولي، ترعى شؤون «البنية الفوقية» للقطاع، حتى وإن ظلت لحماس اليد الطولى فيما هو تحت الأرض، وما يتعلق بالبنى التحتية لغزة.
وثمة أطراف إقليمية، وتحديداً تركيا وقطر، قد تدعمان هذا التوجه، وقد تبحثا عن مخارج وتسويات، لتمرير «الحل الإنساني» من دون المساس بسلطة الأمر الواقع، وبما يداعب مخيلة، فريق وازن في حماس... وهذا «السيناريو الخطير» هو ما يسعى جرينبلات، بالتنسيق مع الإسرائيلي، لسبر أغواره وتسويقه والبحث عن فرص لتظهيره... وهو السيناريو ذاته، الذي يأتي كوشنير وصحبه على المنطقة، لوضع النقاط الأخيرة على حروفه.
وسيكون بمقدور حماس أن تدعي أنها لم تفاوض ولم تبرم صفقة أو اتفاقاً، وقد ينساق إلى هذه «القناة الإنسانية» فريق منها بحسن نوايا، مع أن الطرق إلى جهنهم، غالباً ما تكون مفروشة بأحسن النوايا وأطيبها... وقد تجد حماس، تأييداً لها من قبل قطاع من أهل القطاع، أثقلت كاهله ليالي الحصار الطويلة والعقوبات الجائرة... لكن التاريخ لن يرحم المتورطين في لعبة «تسلل السياسي خلف الإنساني» وتلطيه بعباءته، مهما كانت النوايا، وأياً كانت المبررات أو التبريرات.
وفي ظل الانقسام الفلسطيني، السياسي والمؤسساتي والجغرافي، الأخطر في تاريخ شعب فلسطين الحديث والمعاصر، فإن أي بحث «انساني» حول القطاع، لن يفضي إلا تكريس هذا الانقسام، وتعبيد الطريق أمام «دويلة غزة» أو «إمارتها»... ولن تنفع بعدها كل الشعارات الباذخة: لا دولة في غزة ولا دولة من دونها... سننتهي إلى «إمارة الأمر الواقع في غزة»، مثلما انتهينا بعد إحدى عشرة سنة من الانقسام، إلى سلطة الأمر الواقع في غزة.
وحدها مصالحة وطنية شاملة وحقيقية، يمكن أن توفر شبكة أمان، تمنع الإنساني من الحلول مع السياسي في معالجة ملف غزة... وتحول دون تحوّل «المؤقت» إلى «دائم»، جرياً على المألوف الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين... وكل حديث عن حلول إنسانية لأزمة القطاع، خارج إطار المصالحة والوحدة الوطنية، سيصب الحب صافياً في مشروع ترامب وصفقة العصر و»غزة أولا».
مشروع ترامب وصفقة القرن و»غزة أولاً وأخيراً»، ليس قدراً لا رادّ له... ثمة أوراق عديدة يمكن اللجوء إليها لإسقاط هذا المشروع، إن خلصت النوايا، وتغلبت المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفصائلية الدنيا... ثمة امعتاض عالمي من ترامب وإدارته وصفقته... وثمة انقسامات في العالم العربي والإقليم يمكن توظيفها، وثمة فريق من حماس، غير مستعد للتساوق مع المشاريع المعدة للقطاع، والأهم من كل هذا وذاك وتلك، أن وحدة الموقف الفلسطيني، كفيلة وحدها، بإحباط المسعى الأمريكي، وتشييد السدود المنيعة التي تحول دون تدفقه إلى العمق الفلسطيني، فهل يقتنص الفلسطينيون اللحظة التاريخية قبل فوات الأوان؟
المصدر : جريدة الدستور
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك