أيا تكن النتائج التي ستنتهي إليها التحقيقات بواقعة اختفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، فإن السعودية بعد الواقعة ليست كما كانت قبلها، وأن الضرر البالغ لصورتها ومكانتها، ولصورة ومكانة ولي عهدها القوي الأمير محمد بن سلمان، قد وقع، فيما الجهود التي تبذلها المملكة وأميرها، إنما تنحصر في تقليص حجم هذا الضرر، والخروج بأقل الخسائر الممكنة.
وإذا كان صحيحاً أن واقعة اختفاء الخاشقجي قد أصبحت قضية رأي عام عالمي، إلا أن الصحيح كذلك، أن الاهتمام الكثيف والمركز بهذه القضية، يكاد ينحصر بين عواصم ثلاث ذات صلة: الرياض، المتهم الرئيس في الواقعة، أنقرة، عاصمة الدولة التي وقعت على أرضها الجريمة، وواشنطن التي اتخذها الخاشقجي "منفى اختيارياً" له وعمل في صحافتها، وأقام فيها مروحة واسعة من الصداقات والعلاقات، بعد أن قرر ترك موطنه الأصلي، حيث ضاقت عليه الأرض بما رحبت.
ردود الفعل التركية – الأميركية على حادثة الخاشقجي، تشدد الخناق حول عنق الأمير محمد بن سلمان، الذي بات مطالباً أكثر من غيره، بتقديم توضيحات مقنعة حول وقائع الحادثة وتفاصيلها، والإجابة على سؤال: أين الخاشقجي؟ وتوضيح مسؤولية المملكة عن اختفائه القسري بعد دخوله مبنى القنصلية، فضلاً عن كافة الأسئلة والتساؤلات التي تحيط بالجريمة وتدور حولها... بيد أن كلا من أنقرة وواشنطن، لم تغلقا الباب بإحكام بعد، في وجه "سيناريوهات وطرق أخرى" للخروج من الأزمة، فكلتا العاصمتين، لديهما شبكة واسعة وعميقة من المصالح في السعودية ومعها، من الصعب عليهما التفريط بها.
بالنسبة لواشنطن، الرئيس ترامب وصهره جارد كوشنير تحديداً، اللذان دعما بقوة صعود الأمير محمد بن سلمان إلى موقع الصدارة في النظام السياسي السعودي، وأشادا بدوره الإصلاحي داخلياً وصلابته في مواجهة إيران خارجياً، فإن من الواضح تماماً أن صداقة الرجل تحولت من ذخر للإدارة إلى عبء عليها، وستجد هذه الإدارة صعوبة حقيقية في الاستمرار بدعمها للأمير الشاب، سيما وأن حملة الانتقادات للقيادة السعودية، تتفشى في أوساط الإعلام والكونغرس والمنظمات الحقوقية والأكاديمية الأميركية، بصورة أشد وقعاً وتأثيراً، وغير مسبوقة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001.
إدارة ترامب تجد نفسها بين خيارين أحلاهما مُرُّ، فهي من جهة لا تريد التخلي عن "الحليف السعودي" القوي بأدواره الثلاثة الاستراتيجية: أكبر سوق للسلاح الأميركي، وأكبر متحكم بسوق النفط ومعادلة العرض والطلب، وأكبر خصم إقليمي لإيران وحلفائها في المنطقة ... بيد أنها من جهة ثانية، لا تستطيع أن توقف كرة الثلج المتدحرجة بعد واقعة الخاشقجي، ولا تستطيع سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، أن تتحمل أوزار هذه الفعلة النكراء، سيما إن ثبت تورط السعودية في واقعة الخاشقجي، خطفه أو قتله، وهو أمر تتكاثر بشأنه الشواهد والأدلة، يوماً إثر آخر، وإن كانت غير رسمية بعد.
والمؤكد أن الاهتمام في مؤسسات صنع القرار الأميركي يتركز أساساً حول اجتراح "معادلة" تحفظ لواشنطن علاقتها التحالفية "الثمينة" مع الرياض، ومن دون أن تتحمل التكلفة الباهظة لجريمة إسطنبول، وهو أمر سيعيد النقاش في واشنطن، حول صحة الرهان على محمد بن سلمان، وما إذا كان من الصائب دعم تقدمه في سلم القيادة في المملكة على حساب بقية أفراد العائلة السعودية، وربما يدفع هذا النقاش باتجاه دعم تولية شخصيات أخرى من داخل العائلة، سيما تلك التي اشتهرت بتاريخها الطويل في التعاون مع واشنطن في شتى المجالات، سيما الأمنية والاقتصادية منها، وهم كثر.
وسوف توفر الجريمة في إسطنبول، للإدارة الأميركية، أو على الأقل، تيار من داخلها، فرصة هامة، للتدخل المباشر لتصويب مسارات السياستين الداخلية والخارجية للمملكة، والتي تميزت بالتهور والاندفاع، مطبوعة بشخصية الأمير الموصوف بـ"المغامر" ... وهنا لا يستبعد المراقبون، أن تكثف واشنطن من جهودها لاحتواء الحرب المندلعة في اليمن منذ ثلاثة وأربعين شهراً، سيما بعد ارتفاع كلفتها الإنسانية، وتحولها إلى أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث وفقاً لتقارير المنظمة الدولية ... كما أن هؤلاء المراقبين، لا يستبعدون أن تنجح جهود واشنطن في تسوية الأزمة بين السعودية وقطر أو احتوائها، مستفيدة من حالة الضعف التي تمر بها القيادة السعودية، وحاجة الرياض، لصرف الانتباه عمّا جرى في إسطنبول، وسعيها لإعادة ترميم صورتها، والعودة إلى سياسات أكثر واقعية وعقلانية واتزاناً.
أما تركيا، فلديها بدورها شبكة متشعبة من الحسابات والمصالح مع السعودية، التي من المرجح أن تسعى لحفظها وتسويتها الآن، وفي هذا التوقيت المناسب... تركيا تريد أن تحتفظ بحصتها من السوق السعودية، وان تضاعف تجارتها معها، ولتركيا استثمارات وعقود في المملكة، تريد الحفاظ عليها وإدامتها وتوسيعها، لكن لتركيا حسابات سياسية لا تقل أهمية عن حساباتها الاقتصادية مع الرياض.
لقد شهدت العلاقات الثنائية بين أنقرة والرياض، فتوراً لم يعد خافياً على أحد، قبل واقعة القنصلية، وبالأخص بعدها ... تركيا تتهم السعودية بدعم أكراد سورية، ولا زالت تتذكر زيارة الوزير تامر السبهان لمناطقهم، صحبة عدد من المسؤولين العسكريين الأميركيين، وهذا أمر يرقى إلى مستوى التهديد الاستراتيجي من منظور أنقرة وحسابات أمنها القومي ... وتركيا اتهمت بصورة غير رسمية، دولاً خليجية، من بينها السعودية والإمارات بـ"التآمر" على الليرة التركية ... وتركيا يهمها بدرجة ثالثة، أن تطمئن لمستقبل حليفتها الأقرب في الخليج العربي: قطر، التي تتعرض لحصار وعقوبات صارمة من قبل الرياض وأبو ظبي، وهي ستؤيد المساعي الأميركية لترميم البيت الخليج الداخلي، ويهمها أن تكون طرفاً في هذه المساعي، على أمل أن تكون المصالحة الخليجية، بوابة لتوسيع التبادل التجاري بين تركيا ودول المجموعة الخليجية.
ويرى مراقبون، أن سعي تركيا لضمان مصالحها وحساباتها الاقتصادية والسياسية في السعودية ومعها، هو الذي يفسر إحجام أنقرة عن كشف ما لديها من معلومات عن واقعة القنصلية، وقبولها الفوري بتشكيل "مجموعة عمل مشتركة" استجابة لطلب الرياض، للتحقيق في الواقعة، بل أن بعضهم يمضي للقول إن "التصعيد" في نبرة الخطاب التركي حول واقعة القنصلية، وسياسة التسريبات غير الرسمية التي اعتمدتها في إدارة هذا الملف، إنما يهدف إلى رفع الأثمان التي تتوقع أنقرة جنيها من الرياض، وتحضير "المفاوض السعودي" لسيناريو من هذا النوع.
من الصعب الجزم بالنتيجة التي ستنتهي إليها التحقيقات وما يرافقها من "رسائل متبادلة" و"إعلانات نوايا" ... ومن الصعب التكهن بالمسارات التي ستسلكها الأطراف الثلاثة الرئيسة في هذه الأزمة ... فليس هناك قرار سهل بانتظار العواصم الثلاثة: الرياض لا تستطيع الاعتراف بمسؤوليتها عن الحادثة، وهي تبحث جاهدة عن "طرف ثالث" تلقي عليه باللائمة عن الجريمة، ومن غير الواضح إلى حد ستستجيب إلى متطلبات إغلاق هذا الملف ومغادرة "حالة الإنكار"، وربما "الغطرسة" التي تهيمن على تصريحاتها ومواقف المسؤولين فيها والناطقين باسمها... وأنقرة التي تتطلع لفتح الأسواق الخليجية أمام تجارتها، وتنتظر الاستثمارات الخليجية بفارغ الصبر، وتريد لدول الخليج أن ترفع يدها عن "المسألة الكردية" وعن قطر كذلك، لا تستطيع في المقابل، أن تتجاهل حقيقة أن اختفاء الخاشقجي، يشكل ضربة في الصميم لسيادتها وأمنها وكرامتها، وهي بدورها تبحث عن مخرج يحفظ لها حفظ ماء وجهها من جهة، ويعظم مصالحها من جهة ثانية.
أما واشنطن، فقد كان الرئيس دونالد ترامب واضحاً في عرضه للمسألة: لن نتخلى عن السعودية كأكبر مستورد للسلاح، ولن نسمح لملياراتها بالذهاب إلى روسيا والصين، لكننا في المقابل لن نصمت على هذا "العمل السيئ جداً"، وهناك "طرق أخرى" لمعالجة المسألة.
والحقيقة أن حكاية "الطرق الأخرى"، هي أكثر ما استوقف المراقبين، متسائلين عمّا إذا كان الوقت قد حان للبحث عن "كبش فداء"، ومن سيكون، وسط توقعات بأن قضية "الخلافة" في حكم السعودية، سيعاد فتحها من جديد، بعد أن بدا أن العرش قد استتب لمحمد بن سلمان، وأن الرهانات قد تنعقد على حراك داخل الأسرة السعودية لاستنقاذ حكمها وصورتها ومكانتها، حتى وإن كان الثمن "التضحية" برجل لم يترك لنفسه كثيراً من الأصدقاء على أية حال، لا في الداخل السعودي ولا في الخارج، فهل ستكون واقعة الخاشقجي بداية نهاية عصر محمد بن سلمان؟
نقلا عن الأيام الفلسطنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك