قليلة هي الأماكن العامة، التي كان يمكن للشيوعيين واليساريين، والمعارضين عموماً، أن يلتقوا بين جدرانها... واحدة منها كانت جمعية الصداقة الأردنية السوفياتية في منتصف الشارع الواصل بين الدوار الثالث وراس العين (أظنه شارع عبد المنعم رياض)، والمركز الثقافي السوفياتي، الكائن خلف مستشفى عاقلة في الدور الثالث لجبل عمان، وهو اليوم مقر وكالة حمودة التي يملكها ويديرها عبد الله حمودة «أبو الرائد» ... أما المكان الثالث، غير الرسمي، فكان مقهى شهرزاد، غير بعيد عن مطعمي الكلحة والقدس في تلك الأزمنة. كانت جمعية الصداقة برئاسة الشخصية الوطنية البارزة الدكتور رفعت عودة، منشغلة في إحياء المناسبات السوفياتية، أهمها بالطبع عيد ميلاد لينين فلاديمير إيليتش أوليانوف «لينين»، وذكرى الثورة البلشفية في «وطن الاشتراكية الأول»، الاتحاد السوفياتي، وكان القوم شديدي الحماسة في كل مرة يجتمعون فيها للحديث عن مناسبة من هاتين المناسبتين...
ورفعت عودة لمن لا يعرفه من أجيالنا الشابة، هو مناضل أردني وفلسطيني، ومن أوائل من مارسوا مهنة الطب في الأردن، اتهم بتدبير محاولة انقلابية قادها صادق الشرع، وحكم عليه بالإعدام ثم المؤبد، وعمل في صفوف منظمة التحرير وأنشأ مع المرحوم بهجت أبو غربية، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني.ذات يوم، أظنه في العام 1974، وكنا في الثالث ثانوي، قررنا جواد البشيتي وأنا، أن نحضّر أنفسنا للمشاركة في إحدى «مئويات» لينين في الجمعية ... أعددنا العدة «الفكرية والتاريخية» في المناسبة، وذهبنا بملء الثقة والاستعداد لنقاش «كسر عظم، سنسميه لاحقاً باسم أكثر خفة وأقل فظاظة: «حكّ ركب»، في دلالة على شكل «المبارزة» التي سيتخذها الحوار، بين شيوعيين «ستالينيين» وثوريين «تروتسكيين»، كما كنا نميل لتسمية أنفسنا.
كانت صدمتنا كبرى، فقد كان المتحدث الرئيس في تلك الجلسة هو الدكتور منيف الرزاز، المفكر القومي والسياسي البعثي المرموق، كنا نسمع به عن بعد، لم يسبق لنا أن التقيناه أو قرأنا له أية مقالة أو كتاب ... هالنا أن الرجل الجالس في «غير بيته»، في بيت «الشيوعيين واليسار عموماً»، يتصدر الجلسة، ويتحدث عن زعيم ومؤسس للحركة الشيوعية العالمية، وفي الوقت ذاته، يحظى بكل هذا التقدير والاحترام من قبل الجميع على اختلاف أطيافهم...
كان المنظمون سعداء بضيفهم، وكان الحضور أكثر من المعتاد، أسقط في يدنا، وخشينا أن تذهب استعداداتنا سدى، وألا تتاح لنا الفرصة لتفنيد «الانحرافات الفكرية» للشيوعيين الأردنيين.أخذ الرجل بالحديث مطولاً عن لينين و»استيقاظ آسيا» وتحالف العمال والفلاحين، وموقع حركات التحرر الوطني في العملية الثورية العالمية، وكاد ينطق بما يجول في خواطرنا من أفكار، لم نعتد سماع مثلها في «الخطاب الشيوعي الكلاسيكي»، لكن الريبة والانزعاج لم تفارقاننا، ونحن نرى بعثياً، ينطق باسم لينين والشيوعيين، في وقت ظننا فيه أننا «أصحاب وكالة حصرية» لفعل ذلك.انتزعنا الحق بأخذ دورنا في الكلام عنوة، فقد كنا صغاراً في السن، ولا تبدو على هيئتنا أننا من «علية القوم» أو من «المفكرين الثوريين» الذين سيغيرون العالم، ولولا تحفزنا المستمر، وأصواتنا العالية، لما التفت إلينا أحد، ونحن نجلس في الصف الأخير أو قبل الأخير للقاعة الصغيرة على أية حال...
حملت على الرزاز، و»معاييره المزدوجة» و»نفاقه الفكري»، إذ كيف يتحدث بكل هذه الإيجابية عن لينين والشيوعيين، فيما رفاقنا في الحزب الشيوعي العراقي»، «حزب فهد» يطاردون ويذبحون بأيدي بعثية، وكيف يمكن تفسير مواقف وسلوك البعث والقوميين العرب المعادية للشيوعية والشيوعيين في كل من مصر وسوريا والعراق ... كيف يسهم في إحياء زعيم البروليتاريا العالمية وهو ممثل للفكرة البرجوازية القومية، الرأسمالية في نشأتها وتاريخها وأيديولوجيتها ... أحسب أننا نجحنا في «التنغيص» على رفعت عودة ومعظم الحضور على أقل تقدير، وإن لم يكن الانفعال أو الانزعاج قد بديا على ملامح الرزاز وحديثه، بل بالعكس من ذلك، فقد طالبنا الاستمرار بالكلام، رغم الأصوات التي تعالت من القاعة، مطالبة بإسكاتنا.كان الضيق بمداخلاتنا الحماسية، واستهجان رغبتنا الجامحة بالبرهنة على أننا الممثل الشرعي الوحيد للماركسية الصحيحة من قبل بعض الحضور، حافزاً إضافياً لنا لرفع النبرة والتشدد بالموقف ...
حملنا على النزعات الانقلابية للبعث، واستهدفنا رفعت عودة بالاتهام ذاته، وذكرنا بمحاولته الانقلابية، وشددنا على أن أننا معشر الماركسيين، نؤمن بالجماهير وحركتها الجارفة، ولا نؤمن بالدسائس والمؤامرات والانقلابات المدبرة في ليل بهيم، وغادرنا القاعة في حركة استعراضية، أحسب أنها أراحت كثيرين ممن ضاقوا ذرعاً بنا.شجعتنا ردة الفعل الهادئة للراحل الرزاز على مواصلة ما بدأنا به ... تبعناه إلى عيادته الكائنة في شارع بسمان وسط عمان، وعندما استوضحت «السكرتيرة أو الممرضة» عن أوجاعنا وسر زيارتنا للحكيم، أبلغناها بأننا نريده في موضوع شخصي، لم يبدُ علينا أننا من أقربائه أو أصدقائه، فبددنا حيرتها بالتشديد على أنها قضية سياسية وفكرية، من الأفضل أن نبحثها معه، وليس معها، وفي إيماءة مفادها أن الموضوع أكبر من قدرتها على الفهم والاستيعاب... قبل أن ندخل إليه، جواد وأنا، خرج إلينا وأدخلنا إلى مكتبه بحفاوة، وبادرنا بالقول أنه سعيد بنا، وأننا نذكره بمرحلة الشباب القومي واليساري (كان عرف أننا يساريون وماركسيون)، وشجعنا على المضي في شق طريقنا، وألا نقف عند أول العوائق والعقبات، وألا تحبطنا ردود الأفعال على ما يصدر عنا، وأهدانا كتيبات من عنده ودعانا لتكرار الزيارة، وخرجنا بغير ما جئنا به ولأجله... لقد تم احتواؤنا، ويومها كنا نقول: «تنفيسنا»، ولم نعد بعدها لمقابلته مرة أخرى.لم تكن العلاقة المضطربة مع إدارة جمعية الصداقة، هي الاستثناء في بواكير عملنا السياسي ... نفس المشهد مع رفعت عودة ومنيف الرزاز، سيتكرر مع الدكتور وليد مصطفى الذي كان يدير المركز الثقافي السوفياتي ... وأذكر يوماً أننا جئنا المركز لحضور ندوة أو عرض فيلم، وتجميع ما صدر عن وكالة نوفوستي والمدار ودار التقدم وغيرها من كتب ومنشورات، وكانت أمسية شتوية عاصفة، وشوارع مخيم الوحدات، تفيض بالطين والمياه القذرة، التي غطت أحذيتنا والنصف الأسفل من «بنطلوناتنا»، إلى الركبة كما يقال... لم يكن صعباً أن ترى آثار أقدامنا مطبوعة على «الماكيت الأحمر» الذي فرشت به ممرات المركز، لكن أحداً لم يلفت انتباهنا أو يعترض على ما تسببنا به من «كوارث» في المكان، وكنت أظن أنهم اختاروا اللون الأحمر القاني للماكيت، في دلالة على التزامهم الصارم بالماركسية والشيوعية... كانوا لطفاء للغاية، لكننا ومن موقعنا «الطبقي» كممثلين طليعيين لـ «البروليتاريا الرثة»، واصلنا المسير حتى الصف الأول من المقاعد، وكانت وثيرة أكثر من غيرها، وجلسنا بانتظار بدء النشاط ... وعندما جاءنا من يطلب منا العودة صفين أو ثلاثة صفوف للوراء، لإبقاء مساحة لـ»كبار الضيوف»، اشتطنا غيظاً، وتأكدت أسوأ كوابيسنا: الاتحاد السوفياتي لم ينجح في إزالة الفوارق بين الطبقات كما بشر ماركس وإنجلز ولينين، وها هو وليد مصطفي، يكرس النزعة الطبقية في المركز .... لم نتردد في اتخاذ القرار ذاته: الانسحاب الاستعراضي من المكان، برغم محاولات الاسترضاء واحتواء الموقف، وسط ضجيج أحاديثنا المسموعة تماماً، التي تكيل الاتهامات للمركز ومديره والاتحاد السوفياتي، بالكذب والنفاق وانفصال الخطاب عن الممارسة.
سلكنا الطريق إلى وسط البلد عبر طرق متشعبة (زواريب) مرورًا بالدوارين الثاني والأول، قبل أن تستوقفنا دورية شرطة، وتشرع في تفحص هوياتنا، بل وفي تفتيشنا جسدياً، فلما عثروا على منشورات نوفوستي التي كنا خبأناها تحت ثيابنا، خشية من المطر والبلل، وليس لاعتبارات أمنية، اقتادتنا الدورية إلى المخفر، وهناك دخلنا في «سين وجيم»، لم ننته منه إلا بعد ساعات ثلاث على أقل تقدير...
وكان السؤال الأول الموجه إلينا: هل انتم شيوعيون أم لا؟ ولماذا تترددون على المركز الثقافي السوفياتي؟ وغير ذلك من أسئلة، توقفت بعد أن تدخل ضابط رفيع على ما يبدو، عرف أننا كنا في مكان عام غير محظور، وأنه مكان يتردد عليه الشيوعيون وغيرهم... ومنذ تلك الواقعة، بتنا أكثر حذراً في التردد على المركز، جيئة وذهاباً، وحرصنا على تفادي «التسكع» في الشوارع ونحن محملين بمنشورات المركز وكتبه.المكان العمّاني الثالث، حيث كان بمقدورك أن تجد فيه شيوعيين ويساريين، وفي كل وقت تقريباً، كان «مقهى شهرزاد» في شارع الملك حسين «شارع السلط» ... هناك، كان يتردد جميل وجوليت عواد، وهناك أيضاً كنت تجد تيسير سبول وعوني فاخر وعبد الله حمودة (أبو الرائد) الذي اصطحبني إليه أول مرة، وسوف تلاحظون إن لم تكونوا لاحظتم، أن اسم عبد الله حمود سيتردد كثيراً، فالرجل كان حاضراً بقوة، ولديه تجربة وشبكة علاقات مذهلة، فضلاً عن كونه الأمهر حتى تاريخه على الأقل، في طهي قلاية البندورة بالبيض مع كمية معتبرة من الفلفل الحار.
بخلاف مقاهي عمان، التي تشترك جميعها بتقديم الشاي والقهوة والأعشاب والأرجيلة العجمية (لم يكن المعسل قد اكتشف بعد)، وتستقبل الزبائن من مختلف المرجعيات والطبقات، كانت «شهرزاد» تقدم «الاسبريسو»، وكنت سمعت عن هذا النوع من القهوة، لأول مرة في ذاك المكان الضيق للغاية، فهو لا يزيد عن أكثر من أربعة أو خمسة مترات مربعة، توزعت عليها بضعة طاولات صغيرة، وفي مدخل المحل، كانت هناك ماكينات لتحميص القهوة وطحنها وبيعها للمارة، أما رواد المقهى، فكانت تفصلهم عن عيون الفضوليين من المارة، ستارة تسدل خلف كل من يدلف إلى المكان.
أحببت المكان كثيراً، فقد كان هادئاً وحميمياً، ولديه نوعية خاصة جداً من الزبائن، على أنه لا ينسجم مع «هويتي الفكرية والإيديولوجية»، فكنت انتقده وانتقد مرتاديه، لنزعاتهم البرجوازية، من دون أن يمنعني ذلك من التردد عليه، بين الفينة والأخرى، خصوصاً حين يكون لدي «فائض في الميزانية»، وبصحبتي فتاة جميلة، أرغب في إثارة إعجابها، كان ذلك في سني الجامعة الأولى.
المصدر : جريدة الدستور
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
أرسل تعليقك