بقلم - عريب الرنتاوي
تطورات الشمال الشرقي لسوريا، عاصفة ومتسارعة ... «بجرة مكالمة واحدة» بين ترامب وأردوغان، «مسح» الرئيس الأمريكي كافة تعهدات إدارته لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حمايتها ... و»منح» أنقرة ضوءاً أخضر لتنفيذ مشروعها بإنشاء «منطقة آمنة»، ترى تركيا أن تكون بعمق ثلاثين كيلومتراً وطول يقارب الخمسمائة كيلومتر على امتداد الحدود.
واشنطن توقعت أن تنفذ تركيا اجتياحاتها في أية وقت وأية لحظة ... الاستعدادات اكتملت وصور الأقمار الاصطناعية تظهر ذلك ... وواشنطن أكدت أنها «لن تدعم العملية التركية ولن تشارك»، لكأن المطلوب منها أن تقف في صف تركيا ضد أكراد سوريا، وهي التي طالما تعهدت بحمايتهم، وكانت المسؤولة عن «رفع سقف توقعاتهم»، وهي أكثر من غيرها، من عمد إلى تعطيل حواراتهم ومفاوضاتهم مع دمشق، تحت طائلة التهديد والوعيد بتركهم لقمة صائغة للأتراك.
حتى قبل أيام، ظلت واشنطن على موقفها القائل بأن الترتيبات التي اتخذتها على نحو مشترك مع الأتراك: تسيير الدوريات البرية المشتركة والطلعات الجوية المنسقة، كافية لحفظ أمن الحدود ... وكانت المفاوضات تدور حول عمق المنطقة الآمنة المطلوبة تركياً، وهوية ساكنيها الجدد من اللاجئين ... واشنطن قبلت بمنطقة بعمق 5-15 كم، وبعودة اللاجئين من أبناء المنطقة إلى مدنهم وقراهم ... لكن الجانب التركي، كان يصر على منطقة بعمق ثلاثين كم، وعودة أي لاجئ سوري إلى هذه المنطقة، من دون اشتراط أن يكون من سكانها الأصليين.
اليوم، كل شيء تبدّل ... واشنطن تتخلى عن حليفها الكردي، وتبرهن بالملموس بأنها لطالما نظرت إليه كورقة وأداة، لا أكثر ولا أقل ... وأن «قضيتهم الوطنية» تسقط كورقة صفراء ذابلة ما أن يتقادم مفعولها، وتصبح «لاغية» ... اليوم جاءت لحظة الحقيقة والاستحقاق، ولن ينفع الأكراد قولهم: أن واشنطن لم تف بوعودها في حماية الأكراد والمناطق الحدودية... لن ينفع الأكراد ولن يعفيهم من مسؤولياتهم، إن هم انخرطوا في «لطميات» تندد بالخذلان وتعيد انتاج خطاب «المظلومية».
هنا والآن، لم تتأخر أفعال واشنطن عن أقوال رئيسها ... «قسد» تحدثت عن انسحابات أمريكية فعلية من الشريط الحدودي، سيما قبالة تل أبيض وراس العين ... وهي التي سبق لها أن طلبت من «قسد» سحب قواتها وأسلحتها الثقيلة وتدمير دشمها وتحصيناتها قبالة الشرط الحدودي توطئة لتفعيل «الآلية المشتركة» المتفق عليها بين البنتاغون ووزارة الدفاع الأمريكية ... اليوم، تعاود «قسد» حشد قواتها وأسلحتها، بعد أن أيقنت أنها تركت وحيدة في مواجهة «يائسة» مع الجيش التركي وجيوش المعارضات المدعومة من أنقرة والممولة منها، ومن دون ظهير أو سند لا من دمشق ولا من أي حلفائها.
لا نعرف متى ستبدأ طلائع الجيش التركي و»تابعيه» من المعارضات التي تتحرك بـ»الريموت كونترول» اجتياح مناطق الشمال الشرقي ... فقد تبدأ هذه العملية قبل أن ترى هذه المقالة النور ... لكن المؤكد أن الكرد الذين لم يتعلموا، كإخوانهم العرب، من تجارب واشنطن الناضحة بكل ألوان الخذلان والتخلي عن الحلفاء والأدوات، سيجدون أحلامهم وأشواقهم لكيانية قومية خاصة بهم، قد تحطمت على صخرة البراغماتية الأمريكية ومصالح الدولة الأعظم ... التاريخ يعيد نفسه، متنقلاً بين كردستان العراق وكردستان سوريا «روج آفاً» هذه المرة.
تركيا ماضية في مشروعها: إعادة هندسة الخرائط الجغرافية والديموغرافية في المنطقة ... مليوني سني، غالبيتهم من السوريين العرب السنّة من غير أبناء المنطقة، سيجري توطينهم فيها، ليشكلوا مع مناطق عمليات «غضن الزيتون» و»درع الفرات» حاجزاً بشرياً، ممسوكاً تماماً، أمنيا وإدارياً ولغوياً وثقافياً (التتريك) من أنقرة، يفصل أكراد تركيا عن أكراد سوريا، وعلويي تركيا عن علويي سوريا.
لن نمضي بعيداً في الحديث عن أطماع تركية - عثمانية إلحاقية للشمال السوري، لكن ما يجري في عفرين وجرابلس والباب، يشي بما سيحصل في الشمال الشرقي، ويوحي بأن تركيا وجدت في هذه الأقاليم لتبقى وتتمدد، وليس لمساعدة اللاجئين على العودة لديارهم، أو لمساعدة السوريين لحفظ وحدة بلادهم واستقلالها ... صحيح أن واشنطن بـ»نفخها في كير» الكيانية الكردية كانت تهدد وحدة سوريا وسلامة أراضيها وشعبها، لكن الصحيح كذلك أن تفعله تركيا تحت ستار كثيف من «الرطانة الدعائية» حول مساعدة اللاجئين والحفاظ على وحدة سوريا ومحاربة الإرهاب، ربما يكون أشد خطورة وأبعد مدى وديمومة، بحكم الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.
وما لم تتحرك دمشق وحلفاؤها وأصدقاؤها بفاعلية وقبل فوات الأوان، فإن الجيل القادم من السوريين، سيقرأ في كتب التاريخ عن هذه المناطق من ذات الفصل المتعلق بـ»اللواء السليب»، أو الاسكندرون الذي صار «هاتاي» ... مرة أخرى التاريخ يعيد نفسه على صورة فاجعة...فلا العرب تعلموا دروس تجاربهم المتراكمة، ولا الأكراد يتعلمون.
أرسل تعليقك